جريدة الإتحاد - 8/21/2025 11:34:49 PM - GMT (+4 )

هل وُجد الإنسان فعلاً على ظهر البسيطة منذ آدم عليه السلام، أم أن الإنسان هو اكتشاف حديث؟ نعم وُجد الإنسان مع آدم عليه السلام، ولعله ذلك الإنسان المفكر HOMO SAPIENS بعد أفول نجم الإنسان الصانع HOMO FABER الذي كان يفتقد القدرة على التفكير الصحيح، فأفسد في الأرض وسفك الدماء بشهادة الملائكة.
لكن الإنسان منذ أن وُجد وهو ينتج المعرفة عن ذاته، فكانت تصوراته مختلفة حسب مستويات وعيه وتفاعلاته مع المحيط بخيالاته الجامحة أولاً، خاصة في الأساطير التي قدمت لنا إنساناً يحُاكي الآلهة ويصاهرها ويصارعها، كما تحكي كثير من نصوص الإلياذة والأوديسا لهوميروس، وأنساب الآلهة لهوزيود، ألم يكن هرقل ابن الاله زيوس من سيدة من نساء العالمين، كما تقول الأسطورة اليونانية، فكان نصف إله يتمتع بقوة خارقة لا تضاهى. وللأساطير تصورات خارقة عن الإنسان، فكما أوجدت هرقل أوجدت آخيل الرجل الذي لا يقهره إلا من عرف حلقة ضعفه في عقبيه.
مع الفلسفة تم تجاوز هذه الخيالات، التي كانت لها معانيها ودلالاتها العميقة في ثقافة تريد تفسير الظواهر والأحداث، فلم تجد غير اللاعقل سبيلاً لإنتاج صورة عن الإنسان أبعد عن واقعه وبشريته.
لكن مع ظهور العقل الفلسفي القائم على الخطاب التعليلي المحايث للظواهر والمستشرف إلى إضفاء نسق متماسك على رؤيته للعالم، بدا الإنسان ينتج صورة أقرب إلى الواقع عن شخصه. فأمام طموح الأسطورة الجارف لتفسير كل شيء، أقر سقراط بمحدودية الإدراك البشري، فجعل أهم خاصية للحكيم أن الحقيقة الوحيدة التي يعرفها أنه لا يعرف شيئاً، حاثّاً النّاس على استعمال عقولهم لإدراك الحقيقة دون التعويل على ما تعج به الأساطير من حقائق خيالية عن الإنسان، وأول حقيقة وجّه سقراط النّاس إليها هي حقيقة نفوسهم، فكانت عبارته الشهيرة الخالدة «اعرف نفسك بنفسك». وقد تابع أفلاطون نهج شيخه سقراط، ومحاورته الرائعة «فيدون» من أجمل المحاورات التي قدمت تصوراً عن الإنسان النَزّاع إلى الخلود.
لقد ظلّ المفكرون يستعملون المنهج التأملي القائم، بخاصة، على الاستنباط لتقديم حقائقهم عن الإنسان، ولعل البحث النظري في الإنسان سيبدأ مع «كتاب النفس» لأرسطو، الذي قدّم تصوراً متكاملاً عن الإنسان من حيث قواه النفسية المختلفة، وهو الكتاب الذي حظي بعناية الفلاسفة عبر العصور، وتكفي الإشارة هنا أن ابن رشد شرحه ثلاثة أنواع من الشروح، جامع، وتلخيص، وشرح كبير. وقد ظلّ هذا الكتاب المرجع الأول في معرفة الإنسان ذاته حتى بزوغ العصر الحديث.
لقد ظلّ الإنسان ينتج المعرفة عن ذاته، لكن التغير الأكبر الذي جاء به العصر الحديث أن الإنسان أصبح موضوعاً للمعرفة، إنه عصر العلوم الإنسانية، عصر بزوغ الإنسان وتبلور التصور العلمي عنه، فمع العلوم الإنسانية بزغ مفهوم الإنسان، ولأول مرة أُنْشِأت مختبرات لإخضاع الإنسان للمنهج التجريبي الذي قدم كشوفات مذهلة في فهم أسرار الطبيعة، فجيء به لكشف أسرار الإنسان، فظهر علم النفس ليقدم تصور الإنسان عن ذاته، وظهر علم الاجتماع، ليقدم تصور الإنسان عن علاقاته الاجتماعية، وظهر علم التاريخ ليقدم تصور الإنسان عن ماضيه، وغيرها من العلوم الإنسانية، التي توسلت بالمناهج الفيزيائية والإحصائية جعلت الإنسان بمنزلة الشيء الذي يدرس في نجوة عن عواطفه أو مشاعره، رغم أنه تبيّن فيما بعد حدود هذا المنهج، فظهرت مناهج أخرى اتخذت الإنسان موضوعاً للمعرفة، لكنها توسلت بمنهج الفهم لا التفسير، كما هو الأمر مع ماكس فيبر ودلتاي، وتتوسل بمنهج تأويلي جديد تجلى في الهيرمينوطيقا معدلتاي وشلايماخر وهيدغر وبول ريكور.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية
إقرأ المزيد