جريدة الإتحاد - 8/22/2025 12:21:26 AM - GMT (+4 )

حين فاح الجدري في البلاد، لم تعرف العين من أوصله لعتبة بابها، وهي المحوطة بمتاهة رمال، وجبال قريبة وبعيدة، هل كان أحد القادمين من البحر؟ أم جلبه أحد الجنود الإنجليز العاملين في السرية الرابعة والمتمركزة في قلعة الجاهلي؟ كانت المدينة وقتها لا تتحمل أي جائحة، وهي الخالية من أي مستشفيات، إلا بقراءات مطوع الحارة أو بما يسعف الطبيب الشعبي بأدويته العشبية.
حين عرف الجدري في ذاك الوقت لم تسعفهم عاميتهم في إيجاد اسم لهذا المرض، فهو بين الحصبة والحمجة، وقتها صاح الصائح أن أبعدوا المجدورين أو من تظهر عليهم علاماته إلى بطن جبل حفيت، أو إلى أقرب منطقة خلاء وسيح وسيع لا تصل هبوبه إلى البيوت، وتحركت سيارات الجيش القليلة تحذر الناس وتخبرهم عن الشر الجديد، كبار السن أرجعوا الأمر إلى البُعد عن الله والتقصير في الصلاة وأداء زكاة الأموال، ووجود الإنجليز، مطاوعة المساجد طلبوا من الناس الاستغفار والتوبة والدعاء بنزع الابتلاء، واجتلاء الشر عن البلاد والعباد.
ظهرت في أم السبع بلادين حالات وفاة ربما كانت طبيعية، لكن أحاديث الناس أرجعتها للبلاء الجديد، وبدأ اللغط، فمن كان قادراً امتطاء ناقته ذهب باتجاه البر البعيد، والبعض زبن في نخله، أو لم يخرج من بيوت السعف إلا متلثماً أو يضع على رأسه «يونية خرسانة رطبة»، واعتزل الناس بعضهم بعضاً، كانت دوريات العسكر تجوب المناطق، وتسأل عن أي إصابات جديدة، حصروا قرابة الثلاثين رجلاً ظهرت عليهم بوادر الجدري على الوجه واليدين ونحو العشرين أو يزيد قليلاً من اشتبهوا بإصابتهم، استقروا بالقرب من جبل حفيت متباعدين، ومنعوا من التحرك وإلا سيردون برصاص لا يعرفون من أين سيصليهم، وأن أكلهم سيوصل لهم من بعيد لبعيد، جَنَد الأهالي بعضاً من المتطوعين الشباب لتوصيل الأكل والزاد والماء بطريقة استثنائية ووليدة اللحظة، مثل وضعه في بقجة وتعليقه في أشجار السمر والغاف القريب، وحدها الشمس الحارقة ربما كانت الدواء يومها ودعوات النساء العاجزات في البيوت.
خرج بعض الرجال متعافين إلا من ندوب في الوجه تبعتهم إلى القبر، وقليل من النساء من خرجت متعافية من تلك الجائحة، وحدهم الرجال المتعودون على شقاء البحر وتعب الصحراء نجوا مع حكايات تختلط فيها أساطير الجن ومخاواة سكان الأراضين السبع، والتوبة النصوح.
سيذكر أولئك المجدورون رجلاً من أم السبع البلادين، كان سبباً في نجاتهم الحقيقية، ذاك الرجل ظل يحرسهم من بعيد، ويطبخ لهم بما تصيد يداه، ويفزع للسوق يتدين من الدكاكين حتى يوفر لهم الخبز والعيش وما يقوي تلك العظام والأجسام التي هدّها الجدري، كان يقتطع القرط والأعشاب ويعجنها لتلك الجروح التي تنزّ من أجسادهم، كان ذاك الرجل بمثابة حارسهم الملائكي الذي كان يتألم حين يسحب جثة ليدفنها في صمت! كان يسابق الوقت ليعيد أولئك الرجال إلى بيوتهم دون أن يحمل نعشهم أو نعيهم!
إقرأ المزيد