العالم العربي بمفترق طرق.. بين وعي جديد ومخاطر قديمة
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

لم تكن الساحة العربية يوماً كما هي اليوم، حافلة بالتحوّلات، متشابكة في مساراتها، ومفتوحة على احتمالات متناقضة تجمع بين الأمل والخطر.
إنها لحظة تاريخية يقف فيها العالم العربي عند مفترق طرق حقيقي: إما أن نواصل الدوران في دوائر الماضي، أو ننتقل إلى مرحلة جديدة من الوعي والنضج السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لقد أنهكت الحروب جسد المنطقة، واستنزفت الطاقات، لكنّ ما تغيّر في السنوات الأخيرة هو وعي الإنسان العربي ذاته.
جيلٌ جديد نشأ وسط الفوضى، لكنه تعلم منها أكثر مما تعلمته أجيال سابقة من الاستقرار.
جيل أدرك أن الشعارات لا تصنع تنمية، وأن العاطفة وحدها لا تبني أوطاناً.
جيلٌ يتحدث بلغة العلم والتكنولوجيا، ويبحث عن عمل كريم وفرصة حقيقية، لا عن خطابات طويلة ووعود مؤجلة.
ومع ذلك، فإن المشهد العربي ما زال مثقلاً بالتحديات.
من الحروب في السودان وغزة واليمن، إلى الأزمات الاقتصادية المتكررة، إلى غياب الرؤية في بعض الدول، تبدو المنطقة وكأنها تتأرجح بين الرغبة في التغيير والخوف منه.
لكن في وسط هذا الضباب، بدأت تظهر بوادر نهضة فكرية وواقعية في أكثر من مكان، تستند إلى فكرة أن الإصلاح لم يعد ترفاً، بل ضرورة وجودية.
لقد تغيّرت أولويات الإنسان العربي، فبعد أن كان يطالب بالحرية فقط، صار يطالب أيضاً بالكفاءة، والعدالة، والشفافية، والتعليم النوعي، والإدارة الحديثة. وصار يدرك أن القوة اليوم ليست في السلاح وحده، بل في المعرفة والتنمية والإبداع، وأن الدولة القوية هي التي توازن بين أمنها القومي ورفاهية شعبها، بين الانفتاح على العالم والحفاظ على هويتها، بين التحديث واحترام القيم.
في خضم هذه التغيّرات، تُعيد بعض الدول العربية صياغة موقعها في الخريطة الدولية. فهناك من أدرك أن التحالفات القديمة لم تعد كافية، وأن الاستقلال في القرار السياسي والاقتصادي بات شرطاً لاحترام الذات. ومن يتابع المشهد يلاحظ أن العالم العربي يتجه رويداً نحو الوعي الاستراتيجي: لم يعد الانفعال هو ردّ الفعل، بل التفكير هو الأداة، والمصلحة الوطنية هي البوصلة. لكن الطريق ليس سهلاً.
ما زال الماضي يحاول أن يجرّنا إلى الوراء بأفكاره، وصراعاته، وتناقضاته، بينما المستقبل يدعونا إلى التقدّم بعقل جديد ونَفَس مختلف.
نحن اليوم بحاجة إلى أن نُوازن بين الإيمان بالهوية والانفتاح على العالم، بين التمسك بالجذور والسعي إلى آفاق الابتكار.
فالهوية لا تعني الجمود، والانفتاح لا يعني الذوبان، والمستقبل لا يُكتب إلا بأيدٍ تعرف من أين جاءت وإلى أين تريد أن تذهب.

إن ما يميّز الأمة العربية هو قدرتها على النهوض من تحت الركام.
تسقط أحياناً، لكنها لا تموت، تضعف حيناً، لكنها لا تستسلم. وفي كل مرة تشتد فيها الأزمات، يولد منها وعيٌ جديد، أقوى وأنضج وأكثر وعياً بالذات وبالعالم.
في النهاية، ما نحتاجه اليوم ليس فقط أن نتحد سياسياً، بل إن نتّحد فكرياً وإنسانياً، أن نؤمن بأن قوتنا ليست في حدودنا الجغرافية، بل في قيمنا وعقولنا ومبادئنا.
فحين يكون الوعي هو السلاح، والمعرفة هي اللغة، والهوية هي الجذر، يمكن للعالم العربي أن يعبر هذا المفترق بثقة، ويصنع من أزماته بوابةً إلى مستقبل يليق بتاريخه وحضارته.

*لواء ركن طيار متقاعد. 



إقرأ المزيد