جريدة الإتحاد - 11/7/2025 11:38:12 PM - GMT (+4 )
تشهد الساحة السياسية البريطانية العديد من الأحداث الغريبة، فحزب «إصلاح المملكة المتحدة»، الذي لم يمض على تأسيسه سوى أربع سنوات، يتقدم على الأحزاب التقليدية، وبات حزب «الخضر» يضم أعضاء أكثر من حزب «المحافظين». أما الحكومة بقيادة حزب «العمال»، والتي انتُخبت بأغلبية ساحقة قبل 16 شهراً، تتراجع أكثر في استطلاعات الرأي. لكن الأغرب هو أن السياسة البريطانية تفقد صبغتها المميزة لتصبح أكثر تأثراً بالغرب.
وترجع غرابة ذلك لسببين رئيسين، فطالما افتخر البريطانيون بتفرد نظامهم السياسي الأرستقراطي الذي تطور سلمياً إلى نظام ديمقراطي صارم أتاح للمواطنين، فرصة لارتداء ملابس غريبة وممارسة طقوس غير مألوفة. وقد تبنت نحو 35 دولة أخرى نموذج وستمنستر البريطاني؛ كما ألف الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، كتاباً علمياً عن سبب تفوق النظام البريطاني على النظام الأميركي.
إلا أن هذا الفخر تلاشى حالياً، واختفى التميز، إذ أصبحت السياسة البريطانية أكثر أميركيةً وأوروبية في آن واحد، وبدأ البر الرئيس البريطاني في استيراد سمات منطقة أولستر الأيرلندية، أكثر مناطق الجزر البريطانية اضطراباً.
وتُعد أمركة السياسة البريطانية الاتجاه الأكثر رسوخاً وتعمداً. فقد تصرف رؤساء الوزراء بشكل متزايد كرؤساء، حيث حشدوا أعداداً أكبر من الموظفين، وركزوا السلطة في مقر «داونينج ستريت»، لا سيما في السياسة الخارجية.
وتبنى رئيس وزراء المملكة المتحدة سابقاً توني بلير النسخة الأميركية من تقسيم السلطات البريطانية عندما أنشأ المحكمة العليا وفوض السلطة إلى اسكتلندا وويلز. أما ديفيد كاميرون، فقد دعم تفويض السلطة إلى رؤساء بلديات على الطريقة الأميركية. واستورد الحزبان الرئيسان جميع أنواع سمات العملية السياسية الأميركية، مثل المستشارين ومجموعات التركيز. وفي عام 2014، عين السياسي البريطاني إد ميليباند أحد كبار مستشاري باراك أوباما، ديفيد أكسلرود، قبل انتخابات العام التالي.
وارتقى نايجل فاراج بتحول السياسة البريطانية نحو النهج الأميركي إلى مستوى جديد، حيث استنسخ نسخة كاملة من ترامب، تتمثل في حزب الإصلاح الذي يعتبر نسخة من الحزب «الجمهوري» المُعاد تشكيله بقيادة دونالد ترامب، أي حزب الرجل الواحد الذي يركز على قضايا الهجرة والصحوة الثقافية. ويُحاكي فاراج كل تفاصيل صديقه ترامب في البيت الأبيض، من المسيرات المُصممة بعناية، إلى أسلوبه الساخر الجاد، إلى عادة إطلاق ألقاب على منافسيه. أما قناة «جي بي نيوز»، التي يُقدم فاراج برنامجاً عليها، هي النسخة البريطانية من قناة «فوكس نيوز» الأميركية.
ويستجيب اليسار بأسلوب أمركة خاص به؛ إذ إن زاك بولانسكي، الزعيم الجديد لحزب الخضر، يقتدي بزهران ممداني، الفائز حديثاً بمنصب عمدة نيويورك، ويقلد أسلوبه الحماسي ووعوده المُبالغ فيها.
وتزامن انسحاب بريطانيا المُحفوف بالمخاطر من الاتحاد الأوروبي مع تحويل السياسة البريطانية إلى النسخة الأوروبية بل أسهم جزئياً به. ففي عام 1882، صور جيلبرت وسوليفان إحدى السمات الأساسية للنظام السياسي البريطاني بعبارة ساخرة مفادها أن كل مولود بريطاني هو «إما ليبرالي بعض الشيء أو محافظ بعض الشيء». لكن اليوم، يشهد نظام الحزبين تفككاً، حيث تتنافس خمس أو حتى ست مجموعات مختلفة على الأصوات. وقد تكون فترة انتظار البريطانيين لليوم التالي للانتخابات لمعرفة الفائز قد ولت؛ فبدلاً منها، قد يضطرون إلى خوض الطقوس الأوروبية المعتادة للمفاوضات الطويلة، بينما تكافح الأحزاب لتشكيل ائتلافات، بين حزب «الإصلاح» و«المحافظين» من جهة، في مواجهة «العمال» و«الديمقراطيين» الليبراليين والخضر من جهة أخرى.
وهناك انقلاب غريب في المشهد السياسي في الجزر البريطانية، إذ بدأ المركز البريطاني يستورد رموزاً مميزة للحياة الأيرلندية، مثل أعلام المجتمعات المتنافسة التي ترفرف على أعمدة الإنارة وحشود الشباب الذين يحتجون في الشوارع على صراعات عسكرية قديمة، كما في أولستر، أو ما زالت تشتعل في الشرق الأوسط. وحمل المتظاهرون الملثمون في كاناري وارف منطقة الأعمال والتجارة الرئيسة في لندن، علم «لا استسلام» في تقليد مقصود لعمال الاتحادات في أيرلندا الشمالية.
ويعكس هذا الرمز السياسي حقيقة أن السياسة في بريطانيا العظمى تعاد صياغتها من قبل القوى نفسها التي تشكل أولستر، أي نفس الولاءات العرقية والطائفية والعداوات، التي تتجاوز المصالح المادية والعقلانية.
ففي أولستر، يصوّت الكاثوليك للكاثوليك والبروتستانت للبروتستانت، والسياسيون ليسوا تكنوقراط محترفين بقدر ما هم زعماء طوائف ومجتمعات. وفي المناطق ذات الأغلبية المسلمة في إنجلترا، بدأ الناخبون يصوتون لمرشحين مسلمين بناء على موقفهم من حرب غزة.
ويوجد في بريطانيا أربعة نواب مستقلون يُنتخبون في المناطق ذات الأغلبية المسلمة بناء على موقفهم من غزة، فعندما هزم شوكت آدم حزب «العمال» في ليستر الجنوبية، رفع كوفية فلسطينية وقال «هذا من أجل شعب غزة».
ويخشى العشرات من نواب حزب «العمال» من أن يواجهوا المصير نفسه في الانتخابات المقبلة. وعلى سبيل المثال، فازت جيس فيليبس بمقعدها في ياردلي بأغلبية ضئيلة بلغت 693 صوتاً، بعد منافسة قوية من حزب العمال اليساري المؤيد لفلسطين.
ويرى «اليسار» البريطاني أن مستقبله يعتمد على حشد أصوات المسلمين، إذ يُشكل زعيم حزب «العمال» السابق جيريمي كوربين حزباً جديداً مع زارا سلطانة، نائبة حزب «العمال»، التي انسحبت من الحزب بسبب غزة.ربما كان اعتزاز بريطانيا العريق بتقاليدها السياسية الفريدة مبالغاً فيه بعض الشيء؛ فنظام الحزبين يعني أن الأقليات غالباً ما تشعر بالتهميش، كما تبدو الطقوس الاحتفالية للسياسة البريطانية أحياناً أقرب إلى الروايات المسرحية الخيالية. ومع ذلك، فقد أدت البلاد دوراً ملحوظاً في تحقيق التوازن بين التغيير والاستمرارية وتبني حقوق الأقليات. كما أن إضفاء الطابع الطائفي على السياسة البريطانية سرعان ما يستبدل توافق الآراء بالصراع والانقسام. إن الثورة السياسية الجارية في بريطانيا تمنحنا اليوم أسباباً أكبر للقلق مما تمنحنا ما يدعو إلى الاحتفاء.
*مؤلف كتاب «أرستقراطية الموهبة: كيف صنعت الجدارة العالم الحديث».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»
إقرأ المزيد


