جريدة الإتحاد - 11/17/2025 11:03:32 PM - GMT (+4 )
أمام قادة الأديان المجتمعين بالفاتيكان، يوم 29 أكتوبر 2025، في الذكرى الستين لإعلان «في عصرنا»، قالها قداسة البابا لاون الرابع عشر بوضوح وشجاعة: إن الكنيسة، «إذ تتذكّر التراث المشترك مع اليهود، وإذ تدفعها لا دوافع سياسيّة، بل المحبّة الدينيّة الإنجيليّة، تأسف لما جرى من أحقاد واضطهادات وجميع مظاهر معاداة الساميّة الموجّهة ضدّ اليهود في أيّ وقت ومن أيّ كان». ومع «جميع أسلافي أرفض معاداة السامية بكلمات واضحة. وأؤكد أيضاً أن الكنيسة لا تتسامح مع معاداة السامية وتحاربها».
فلماذا تعرّض البابا لاون لهذا الموضوع الشائك في هذه المناسبة وفي ذلك التوقيت بالتحديد؟ هل لأن جميع العقلاء يلاحظون انتعاش معاداة السامية سواء في البلدان الغربية أو حتى بين بعض رجال الدين الذين يُسخِّرون الأحداث الدائرة في الأراضي المقدسة وفي غزة لتغذية مشاعر الكراهية والمعاداة ضد أبناء شعب العهد القديم، أم لأنّ الكثيرين يخلطون بين الطابع السياسي لما يحدث والجانب الديني البحت، أم لأن الكثيرين لا يستطيعون الفصل بين دولة إسرائيل وبين الشعب اليهودي، أم لأن الكثيرين، طمعاً في الشعبية والشعبوية، يركبون الموجة من دون علم أو دراية بحقيقة الأمور، أو باستهتار بقيمتهم وقامتهم، أو بعدم تقدير لتصريحاتهم ومواقفهم، فيضعون البنزين فوق الحرائق بدلاً من إطفائها؟
معاداة السامية (أو الأنتي سيميتيزم) هي كل كراهية أو تحيُّز أو تمييز موجَّه ضد اليهود كجماعة دينية أو عرقية.
قد نشأ هذا المصطلح في أوروبا أواخر القرن 19 (حوالي 1879)، لوصف العداء المنظم تجاه اليهود، بينما تعود جذور المصطلح إلى العصور القديمة والمسيحية المبكرة، لاتهامات دينية (مثل صلب السيد المسيح)، ثم تطوّر في العصور الوسطى إلى مذابح ونفي (مثل طردهم من إنجلترا 1290 أو مذبحة فاس 1033). بلغت ذروة معاداة السامية في القرن الـ 20 مع النازية، حيث تمّ قتل وحرق ما يقرب من 6 ملايين يهودي 1933-1945 في الهولوكوست. اليوم وفق تعريفات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، تشمل معاداة السامية أشكالاً حديثة مثل التمييز، التحريض.
معاداة السامية هي شكل من أشكال العنصرية الخطيرة، وتُحارب عالمياً عبر قوانين وحملات. ومما لا شك فيه أن السنوات الأخيرة قد شهدت ارتفاعاً حاداً، لا سيما بسبب الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، والإنترنت، والأزمات العالمية مثل كوفيد-19.
فبعد هجوم 7 أكتوبر الإرهابي ضد إسرائيل والرد الإسرائيلي العنيف ارتفعت معاداة السامية في أوروبا بنسبة 2000% في بعض الدول (مثل فرنسا وألمانيا). في ألمانيا، سُجِّل 8627 حادثاً في 2024 (زيادة 77% على 2023)، بمعدل 24 يومياً – معظمها مظاهرات معادية لإسرائيل تتحول إلى كراهية يهودية (89% مرتبطة بالصراع). وقد حدثت هجمات بسكين على نصب الهولوكوست، وتم إيقاف مخططات لمهاجمة السفارة الإسرائيلية في برلين (فبراير 2025). ويشير تقرير ADL (2025) في الولايات المتحدة إلى أكثر من 10000 حادث، بما في ذلك اعتداءات في الجامعات (مثل كولومبيا 2024، حيث اعتبرت بعض الاحتجاجات «معاداة سامية» بسبب شعارات مثل «من النهر إلى البحر»). وعلى المستوى العالمي قامت «تايمز» (2025) بمسح لـ 58 ألف شخص في أكثر من 100 دولة يُظهر أعلى مستوى تاريخي، حيث إن نسبة 40% من البريطانيين يحملون آراء معادية.
تظهر معاداة السامية «الجديدة» في رفض حق اليهود في العيش بسلام وأمن وانتعاش نظريات مؤامرة عن «سيطرة يهودية» ككراهية خفية من اليسار.
لقد شهدت منصات مثل X وتيك توك زيادة 400% في المنشورات المعادية منذ 2023، بحسب تقرير الاتحاد الأوروبي 2025. وفي الشرق الأوسط والعالم العربي غالباً ما يحدث ربط تلقائي بين الشعب اليهودي والصراع القائم بين إسرائيل والفلسطينيين.
تكمن خطورة معاداة السامية في أنها خطر يُهدِّد الكرامة الإنسانية، ويبرّر حتى للصالحين التصرف والتكلم بانحياز وعدم وضع الأمور في إطارها التاريخي والسياسي والإقليمي والدولي الصحيح. إنها عرض لتفشي مرض التمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو العشيرة. إنه ممارسة تفضح حقيقة احترامنا للمختلفين عنا، وهنا نذكر القول المأثور والمنسوب لجيفارا:«أنا لا أوافق على ما تقول، ولكني سأقف حتى الموت مدافعاً عن حقك في أن تقول ما تريد».
فهل سيسمع قادة الأديان نداء قداسة البابا قبل فوات الأوان؟ وهل سنتعلم ونعلم أن واجب الأديان الأول والأهم هو مواجهة الكراهية والتمييز والانقسام الديني حول العالم، ونشر قيم التسامح وقبول الآخر والعيش المشترك؟
إنه نداء شجاع لتطهير الأديان من أن تُستخدم لتوسيع رقعة الصراعات المسلحة وتغذية النزاعات وتبرير العنف. فالدين الحقيقي من المفترض أن يكون طريقاً للمحبّة والسلام، بدلاً من أن نتركه يُستخدم ويتحوّل في بعض الأحيان إلى آلة للقتل والإجرام تُستغل باسمه النصوص وتُبرر به الجرائم، في انحراف خطير عن جوهر الرسالات السماوية التي دعت إلى الرحمة والعدل واحترام الإنسان.
لنتذكر جميعاً القاعدة الذهبية:«افعل بالآخرين ما تشاء أن يفعلوا معك»، لنؤكد أن معاداة السامية لن تُعيد الحقوق إلى أصحابها بل ستجعل منا فقط صنّاع كراهية ومشاركين، سواء بالأقوال أو الأفعال أو حتى الصمت السلبي، في جريمة لا تسقط بالتقادم وفي جُرم يظهر حقيقة المنادين بالسلام والمشعلين للحرب.
إن رسالة البابا لاون الرابع عشر في هذا السياق ليست موجهة إلى الكاثوليك فقط، بل إلى جميع القيادات الدينية في العالم، لتكون دعوة صريحة إلى تحصين الإيمان من التسيّس، وحماية الدين من التلاعب به كأداة صراع.
المونسنيور/يوأنس لحظي جيد
إقرأ المزيد


