التسامح (2)
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

في التسامح تبدو الحياة، ثوب مخمل، وتصبح العلاقة مع الآخر، كما العلاقة بين الموجة والموجة، وها هي سفينة الحياة تستمر في إلقاء أسئلتها على كل معتدٍ أثيم، كيف له أن ينام وقد ضيّع مفتاح الوصول إلى إنسان ظلمه، أو زوج أو زوجة، ظلمته أو ظلمها، وأسئلة أخرى تُرخي بظلالها على العقل، فكيف لنا أن نصنع مستقبلاً من دون أن تكون آلة التسامح في أحسن حالاتها، القلوب حقول مزروعة بالزعفران، والهيل، والقرنفل؟ 
كيف للعالم أن يحفظ أسرار حضارته وهو يمضي حقباً باتجاه علاقات تشوبها أمواج عاتية، وتواجهها رياح تقتلع الجذور، وتحرق الصدور، والإنسان يظل يبحث عن معنى لحياته فلا يجد، لماذا؟ لأنه نسي مفتاح رحابته وشفافيته عند ساحل البحر، فسحبته الموجة وأغرقته، ولم يعد له من وجود. 
هذه هي مصيبة الإنسان الذي يعتقد بأن الثارات مرايا تعكس بطولات وخوارق إرادة، هذه هي مأساة الإنسان الذي يعتقد بأن الحياة غابة، فيها القاتل والمقتول، وما عدا ذلك فلا جدوى منه. هذه فكرة كل من سقطت أفكاره في جحيم العصاب القهري، وبات ألعوبة في يد من لا يد له غير عصا الرّهاب العقلي. 
نعم، الإنسانية اليوم بحاجة ماسّة إلى عقل غير العقل، بل هو عقل خرج من مسبّبات الشك والريبة، ودخل بستان الحب والثقة من دون أسئلة تثير غبار المرية، من دون أسئلة تبعث على الغث، وتنتهك حرمة الحياة السائلة مثل ما هو الماء العذب، مثل ما هو الشهد في ضمير النحلة. 
الإنسانية بحاجة ماسّة إلى عقل يخرج من مأزق الورطات الشائكة ليدخل ساحةً فيحاء، تبوح بأسرار العطر في ضمير الوردة، وتفشي الحب، مثل رائحة الياسمين بين وريقات الشجرة المسالمة.
الإنسانية وهي تمر عبر مضائق الأسئلة الوجودية، عليها أن تطرق أبواب التسامح لتمرَّ بسلاسة، وتعبر المحيطات بقوارب مجاديفها من ريش حمام بري، يهتف بحنان بالغ، كي تلاقي الإرادات، وتبني أعشاشها الرخيّة على جذوع الأشجار العالية. 
هكذا تبدو الحياة، عندما نفصل الطريق إلى علاقة شجيّة بين إنسان وآخر، وهكذا نركب جملة المعرفة، عندما نريد تعريف التسامح، وكونه المفتاح إلى بناء قماشة الغيمة، عند أطراف وأتون، وعند خلجان وممرات، تعبر من خلالها سفن الغوص وهي تعوم على بحيرات وأنهار التسامح بغية رسم لوحة فنية لإنسان متسامح، يعشق الحياة، كما يعشق الوصول إلى عيني امرأة لها أهداب كخيوط الحرير. 
التسامح في نهاية الأمر ليس وسيلة طارئة، بل هو ضرورة وجودية، نحتاجها في حياتنا، كما نحتاج إلى الماء والهواء، وكما نحتاج إلى رونق الثغور يانعة الرّضاب. 
التسامح نحتاجه كما نحتاج إلى لغة عربية تكون جسرنا إلى الآخر، وهي باعنا وذراتنا، وهي حبنا وشوقنا، إلى ذاك الذي فاه به الفراهيدي، ومن بعده سيبويه. نحتاج إلى التسامح، ونحتاج إلى أن يكون في مناهجنا وقيمنا، كالعطر الذي نملأ به جعبة علاقاتنا، نحتاج إلى التسامح في صحونا ومنامنا، لأنه التنفّس الذي يملأ صدورنا، فإذا ما فقدناه، فقدنا وجودنا.



إقرأ المزيد