جريدة الإتحاد - 11/26/2025 9:34:48 AM - GMT (+4 )
في عام 2014 نشرتُ كتابي الأول بعنوان «تعاليم المحبة»، الذي لم يكن مجرد صفحات تحمل مبادئ حول حب الحياة، ومعية الناس؛ بل تحول إلى أداة تواصلية فعلية، وجواز سفر ثقافي عَبَرت به حدود الجنسيات والدين والعرق، وفتحت قنوات مراسلة وحوار انبثقت منها علاقات إنسانية كثيرة. هذا الانتقال من فعل فردي إلى تأثير جماعي كان يضعني أمام تساؤل فلسفي بعض الشيء: كيف يمكن لقيمة وجدانية أن تكون أساساً لسياسة عامة؟
ولم تكتفِ دولة الإمارات، من وجهة نظري، بنشر أدب التسامح والمحبة في المجتمع؛ بل اتخذت خطوة مؤسسية واضحة المعالم عندما أنشأت في عام 2016 وزارة للتسامح والتعايش. وهو قرار رمزي وعملي في آن واحد؛ إذ إن تحويل التسامح من طقس اجتماعي إلى بند مؤسسي حق مكفول بالقانون يمنح هذه القيمة وزناً حسابياً داخل بنية الدولة، عبر تشريع السياسات، وصياغة البرامج، ووضع مؤشرات القياس؛ وهنا يكمن نجاح النموذج الإماراتي؛ لا في إعلان المبادئ فحسب، بل في ترسيخها داخل الأجهزة الحكومية؛ بحيث تصبح ممارسة يومية قابلة للمشاهدة والتقييم.
وذهبت الدولة إلى ذلك؛ إذ تُظهر مبادرات مثل «بنك الإمارات للطعام» الوجه العملي للتسامح؛ إذ تحوِّله من مبدأ إنساني وعمل خيري إلى شبكة عمل مجتمعي وإداري، تنظِّم فائض الغذاء، وتوزعه بلا تمييز. وهكذا تتحول الرحمة إلى كفاءة إدارية، وربط اجتماعي ذي أثر ملموس. ومن زاوية تحليلية يبرز ذلك قدرة دولة الإمارات على تحويل العاطفة إلى بنية إنتاجية تخدم الاستقرار الاجتماعي، وتخفف الاحتقان الطبقي، أو الثقافي، وتعزز تلاحم المجتمع ليصبح كالجسد الواحد يشد بعضه بعضاً.
فما الذي يجعل تجربة الإمارات قابلة لأن تُقرأ بصفتها نموذجاً؟ الجواب يكمن في ثلاثة أمور أساسية: أولاً، الربط بين الثقافة المدنية والمؤسسة الرسمية؛ إذ تُنشئ شرعية جديدة للقيم عبر التدوين القانوني والمؤسسي؛ بما يضمن استدامة ذوبان هذه القيم في عروق مجتمعٍ متنوع شكلاً، متفق مضموناً.
ثانياً، ترجمة الممارسات إلى آليات عمل يومية في المؤسسات المعنية والجهات المنظمة، فضلاً عن الحملات التوعوية التي تجعل السلوك جزءاً من بنية الحياة العامة، لا مجرد طقوس احتفالية، أو فعاليات عابرة. ثالثاً، استثمار القيمةِ أداةَ حوكمة تلتقي فيها أهداف التنمية بأهداف التماسك الاجتماعي، من خلال إشراك المجتمع بكل أطيافه في توحيد رسالته نحو جعل مدينته البيت المتوحد، والحصن الحصين للجميع.
ومع ذلك؛ فإن هذا النموذج ليس محصناً من المخاطر المندسة، ومن يتربصون به؛ إذ يكمن التحدي الأكبر في كيفية استمرار المجتمع المتسامح من دون الالتفات للمغرضين، أو الإصغاء لأصوات الشيطنة الفكرية. فالتسامح أصل، وليس استثناءً، كما أن تقبل الجار قرار، وليس خياراً، ما دام قدِم مقدِّراً للعيش معنا، ومحباً لنا.
وخلاصة القول: إن التسامح في دولة الإمارات أساس أصيل في المجتمع منذ عهد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيب الله ثراه-؛ وهناك قصص كثيرة تؤكد ذلك. ولذلك لم يكن قانون التسامح معطِّلًا لأي قطاع في أجهزة الدولة، ولا مجرد إجراء حكومي، أو بند قانوني؛ بل كان منسجماً مع التوجه العام والفكر السيادي للدولة؛ وهذا ما يجعل المقيمين يرددون دائماً عبارة «الله يخلي الإمارات وشيوخها»، تعبيراً مختصراً عمَّا ينعمون به من رغد العيش، وأمان الحياة.
إبراهيم علي خادم*
*خبير إعلامي ومدير التراخيص الإعلامية بمجلس الإمارات للإعلام
إقرأ المزيد


