جريدة الإتحاد - 11/26/2025 11:00:29 PM - GMT (+4 )
على تخومِ الحداثةِ، تهمسُ الأرضُ بنداءٍ عميقٍ إلى عمارةٍ تنبضُ بالانتماءِ، عمارةٍ تستيقظُ من صمتِ التّرابِ، تُعيدُ للطّبيعةِ رونقَها، وتوقظُ في الإنسانِ حنينَ التّواصلِ معها.
تنبعُ من رحمِ الوعيِ الإنسانيِّ قبل أن تُعانقَ الأرضَ، ويُقاسُ حضورُها بما تبثُّه من إدراكٍ للجمالِ وأبعادِه. ومن هذا المنطلقِ تتبلورُ رؤيةُ العمارةِ بوصفِها كياناً حيّاً يعكسُ فكرَ الإنسانِ، ويُجسّدُ النِّسبةَ الذهبيّةَ ومتتاليةَ فيبوناتشي، حيثُ يلتقي الجمالُ بالعلومِ الرّياضيّةِ والفيزيائيّةِ، وتتناغمُ النِّسبةُ مع الإحساسِ في معادلةٍ تجمعُ الدقّةَ والإبداع.
فالعمارةُ ليست جدراناً تُقام، بل خيالٌ يتبلورُ فكرةً ثم يتجسَّدُ شكلاً هندسيّاً، يكتسبُ نبضَه بالحياةِ حين يسكنُه الإنسانُ، فيجدُ فيه راحتَه وتتحقَّقُ من خلاله حاجتُه، إذ يرى في الحجرِ ظلَّ نفسِه ليكتشفَها، وفي فضائِه يسمعُ صدى فكرِه فيسعى لتحقيقِه، بين حاجتِه إلى المأوى وتوقِه إلى الجمال.
فهل يمكن للعمارةِ اليوم أن تستعيدَ قدرتَها على التّعبيرِ عن الإنسانِ قبل أن تعبّرَ عن السّوق؟
فكلُّ بناءٍ خلاّقٍ هو تجلٍّ لفكرٍ نيّرٍ، يعكسُ العلاقةَ الخفيّةَ بين المادّةِ وجوهرِ المعنى. وفي زمنٍ تتشابهُ فيه المدنُ في صمتِها الزّجاجيِّ وتذوبُ ملامحُ تفرّدِها، تبرزُ الحاجةُ إلى عمارةٍ تستعيدُ جوهرَها الأصيلَ كرؤيةٍ فلسفيّةٍ في فهمِ الحياة، منها يبدأُ الانتماءُ، وإليها يعودُ الاتّزان.
من الفطرة إلى العمارة المستدامة
لقد أدركَ الأجدادُ هذه الحقيقةَ قبل أن تُصاغَ مصطلحاتٌ حديثةٌ كالاستدامةِ وكفاءةِ الطّاقةِ. فعمارتُهم لم تكن مجرّدَ استجابةٍ جماليّةٍ، بل ثمرةَ وعيٍ فطريٍّ كامنٍ، تَشَكَّلَ في عمارتِهم الّتي شادوا فيها الحصونَ والبيوتَ من الطّينِ والحجرِ واللَّبِنِ والجصِّ الجيريّ، واستخدموا جذوعَ النّخيلِ والسّعفَ والأليافَ النّباتيّةَ في التّسقيفِ والتّظليلِ، كما استخدموا الشّعابَ المرجانيّةَ والحجرَ البحريَّ في المناطقِ السّاحليّةِ، فكانت عمارتُهم تنسجمُ مع المناخِ وتحاكي توازُنَه.
وقد استُخدم الطينُ والجصُّ الجيريّ كمادّتينِ ذواتَي كُتَلٍ حراريّةٍ عاليةٍ، تمتصّانِ حرارةَ النّهارِ وتُطلقانَها تدريجيّاً ليلاً، فتوفِّرانِ اعتدالاً طبيعيّاً دونَ طاقةٍ صناعيّةٍ. كما أسهمت أسقفُ النّخيلِ الخفيفةُ والأفنيةُ الدّاخليّةُ في تحسينِ التّهويةِ، إذ ترفعُ الهواءَ السّاخنَ إلى الأعلى، وتسمحُ بانسيابِ الهواءِ الباردِ من الممرّاتِ الجانبيّةِ، محقِّقةً توازناً مناخيّاً طبيعيّاً ينسجمُ مع المكانِ واحتياجاتِ الإنسان.
ويُقصدُ بالعمارةِ البيئيّةِ هنا تلك التي تُصمَّمُ وفقَ خصائصِ المناخِ المحليّ دونَ اعتمادٍ مفرطٍ على الطّاقةِ والتّكنولوجيا، حيثُ يصبحُ المعمارُ شريكاً للطّبيعةِ لا مستهلكاً لها. واليومَ تُعيدُ العمارةُ المتكيفةُ مع العناصرِ الحيويّةِ اكتشافَ تلك المبادئِ الّتي أرساها الأجدادُ، فتُواصلُ من خلالها حواراً بين الذّاكرةِ والطّموحِ، وبين الأصالةِ والتّطوّرِ، في رحلةِ تزاوجٍ خَلّاقٍ بين الإنسانِ والطّبيعة.
تلك المبادئُ تُشكِّلُ اليومَ أساسَ ما يُعرَفُ بالتّحليلِ المناخيِّ السّلبيّ (Passive Design Analysis)، وهو منهجٌ هندسيٌّ يقومُ على استثمارِ العناصرِ الحيويّةِ من شمسٍ ورياحٍ ورطوبةٍ واتجاهاتٍ حراريّة في تصميمِ المباني بما يُوفِّرُ التّهويةَ والإنارةَ والاعتدالَ الحراريَّ من دونِ اعتمادٍ على الطّاقةِ الميكانيكيّة.
وفي العمارةِ الإماراتيّةِ تبرزُ عبقريّةُ هذا الإبداعِ في «البراجيلِ» (أبراجِ الهواءِ)، التي مثّلت نظامَ تهويةٍ طبيعيّاً يعتمدُ على فروقِ الضّغطِ لتحريكِ الهواءِ. وقد أثبتت الدّراساتُ الحديثةُ أنّها قد تُخفِّضُ درجةَ الحرارةِ الدّاخليّةَ حتّى ثمانيَ درجاتٍ مئويّةٍ من دون أيِّ طاقةٍ ميكانيكيّةٍ، تطبيقاً لمبدأ تأثيرِ «فنتوري» (Venturi)، وهي ظاهرةٌ فيزيائيّةٌ تتسارعُ فيها حركةُ الهواءِ عند مرورهِ في مجرى ضيّقٍ فينخفضُ الضّغطُ ويزدادُ الانسيابُ، ممّا يُحسِّنُ التّهويةَ الطّبيعيّةَ داخلَ المباني. وبهذه البنيةِ البسيطةِ سبقَ المعماريّون الأوائلُ نظريّاتِ التّهويةِ الحديثةَ بقرونٍ، وحقَّقوا وحدةً بين الجمالِ والوظيفة.
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ مدوّنةَ البناء الإماراتيّةَ (الكود)، الّتي تُشرفُ عليها وزارةُ الطّاقةِ والبنيةِ التّحتيّةِ، تمثّلُ إطاراً لتنظيمِ الجودةِ والاستدامةِ. غيرَ أنّ تحديثها لتشمل الموادَّ المحليّةَ وأساليبَ البناءِ التّراثيِّ سيمنحُ المعماريّينَ أفقاً أوسعَ للإبداعِ من داخل النّسقِ الطبيعيّ لا من خارجه، ويجعلُ التّشريعَ رفيقاً للابتكارِ لا قيداً عليه.
وانطلاقاً من ذلك تبرزُ الحاجةُ إلى إنشاءِ وحدةٍ أكاديميّةٍ مستقلّةٍ ضمنَ كليّاتِ الهندسةِ الإماراتيّةِ تُعنى بالعمارةِ المستدامةِ وترميمِ الآثارِ، لتجمعَ بين الحسِّ الجماليِّ والمعرفةِ التّقنيّةِ، وتجعلَ الجامعةَ حاضنةً للذّاكرةِ العمرانيّةِ، ومختبراً للوعيِ المعماريِّ الجديدِ، تمدُّ الحاضرَ بجذورِ الماضي، وتوجِّهُ المستقبلَ ببصيرةٍ مستنيرةٍ.
وفي الفكرِ العربيّ أعادَ شيخُ المعماريّينَ، الدكتورُ حسن فتحي، تعريفَ العلاقةِ بين الإنسانِ والطّبيعةِ عبرَ فلسفةٍ عمرانيّةٍ متناغمةٍ مع بيئتِها، حين قال: «أعظمُ ما في البناءِ أن يكونَ ابنَ بيئتِه، يعرفُ هواءَه، ويُصغي إلى شمسِه، ويُحبّ ترابَه». كلماتٌ تختصرُ رؤيةَ معمارٍ رأى أنّ الجمالَ لا يُقاسُ بالزّخرفِ، وأنَّ البيتَ لا يُبنى بالحجارةِ وحدها، بل بالقيمِ التي تجعلُ البناءَ متوازناً في شكله ووظيفته، منتمياً إلى بيئتِه ومكانِه.
ولقد تجاوزَ فكرُ حسن فتحي حدودَ مصرَ والعالمِ العربيِّ ليُصبحَ اليومَ مرجعاً يُدرَّسُ في أعرقِ كليّاتِ العمارةِ حولَ العالمِ، ونموذجاً يجمعُ بين الهويّةِ والاستدامةِ والإنسانِ.
وامتدَّ أثرُ هذا الفكرِ في الوطنِ العربيّ، فظهرتْ تجاربُ معماريّةٌ متنوّعةٌ توحِّدُها الرّؤيةُ ذاتُها: أنّ الإنسانَ محورُ التصميمِ، وأنَّ الطّبيعةَ شريكٌ في الإبداعِ لا عائقٌ أمامَه.
إنّنا نؤمنُ بأنّ العقلَ العربيَّ المعماريَّ يمتلكُ قدرةً فطريّةً وعلميّةً على استيعابِ لغةِ المكانِ والحياةِ الطّبيعيّةِ في آنٍ واحدٍ، إدراكاً لجوهرِ حِسِّ الجمالِ في تآلُفِ الإنسانِ ومحيطِه.
فمن المغربِ إلى الخليجِ تتنوّعُ أشكالُ الحجرِ والطّينِ، غيرَ أنّ الرّسالةَ واحدةٌ، إذ إنّ هذا الوعيَ المشتركَ هو ما يصنعُ من العمارةِ العربيّةِ مدرسةً فكريّةً تُلهمُ الأجيالَ القادمةَ في زمنٍ يتطلّبُ توازناً بين التقدّمِ والهويّةِ.
وكما قالَ المغفورُ له الوالدُ الشّيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّبَ اللهُ ثراه: «نولي بيئتنا جلَّ اهتمامِنا لأنّها جزءٌ عضويٌّ من بلادِنا وتاريخِنا وتراثِنا، لقد عاشَ آباؤُنا وأجدادُنا على هذه الأرضِ محافظينَ عليها، وأخذوا منها قدرَ احتياجاتِهم فقط، وتركوا منها ما تجدُ فيه الأجيالُ المقبلةُ مصدراً ونبعاً للعطاء».
تلكَ الرّؤيةُ هي جوهرُ فلسفةِ العمارةِ المستدامةِ: أن نعيشَ بانسجامٍ لا بغلبةٍ، وأن نبنيَ بحبٍّ لا بتحدٍّ، وأن تقومَ العمارةُ على فهمٍ للطبيعةِ، فتتحوّلَ من حرفةٍ إلى فكرٍ مبدعٍ حيٍّ، ومن مشروعٍ إلى رسالةٍ إنسانيّةٍ يُدركُ الإنسانُ من خلالها مسؤوليّتَه في الحفاظِ عليها، واستخدامِ مواردِها بحكمةٍ.
وفي جوهرِ القولِ تبقى العمارةُ مرآةً حيّةً لإبداعِ الإنسانِ، وعهداً بينَ الأرضِ وساكنيها، فهي لسانُ الأرضِ، تهمسُ بالجمالِ، وتتنفّسُ بالحياةِ، وتُذكِّرُنا بأنّ حمايةَ الأرضِ والاتّزانَ في الأخذِ من مواردِها، وردَّ الجميلِ إليها بما يُجدِّدُ خصبَها ويُحافظُ على توازنِها، وجهٌ من أوجهِ الحضارةِ الإنسانيّةِ.
وكما قالَ المُتنبّي:
هيَ الأخلاقُ ترفعُ كلَّ بيتٍ
وإنْ كانَ البناءُ من جريدِ.
وهكذا تُعلِّمُنا العمارةُ، كما تُعلِّمُنا الحياةُ، أنّ البناءَ الأجملَ هو ما تُؤسِّسُه القيمُ في وجدانِ الإنسانِ قبلَ أن تُقامَ دعائمُه على الأرضِ، فمَن عرفَ نفسَه، وتعمّقَ في فهمِ أسرارِ الطبيعةِ من حولِه، أتقنَ البناءَ، فكانَ الجمالُ شاهداً على إبداعِه.
إقرأ المزيد


