جريدة الإتحاد - 11/26/2025 11:39:58 PM - GMT (+4 )
يتحرك الملفّ الأوكراني بسرعة، وجنيف تصبح عنواناً لإنهاء الحرب. مسودة خطة أميركية بدأت بـ 28 بنداً، وخُفِّضت لاحقاً إلى 19 نقطة بعد مفاوضات جنيف. مهلة من الرئيس دونالد ترامب لكييف، وقلق أوروبي من أن يتحوّل السلام إلى اسم آخر لتكريس الوقائع بالقوة.
جوهر الخطة معادلة وقف الحرب مقابل اعترافٌ بالأمر الواقع في القرم ولوغانسك ودونيتسك، مع تجميدٍ لخطوط التماس في خيرسون وزابوريجيا، وبدء ترتيبات ميدانية من خطّ التماس، وتقييدٍ لمسار انضمام أوكرانيا إلى «الناتو»، وتقليص الجيش الأوكراني، في مقابل ضمانات أمنية أميركية وأوروبية تُقدَّم كمظلّة دفاعية بديلة.وتقترب هذه الخطوط من سقف مطالب موسكو: منطقة عازلة في الشرق والجنوب، تحييد أوكرانيا، ومنع تحويلها إلى قاعدة أطلسية على الحدود الروسية.. لذا كان الترحيب الروسي الأولي بالخطة متوقّعاً، وإن ظلّت التفاصيل موضع أخذٍ وردّ.
وتجد كييف نفسَها أمام معضلة تاريخية، فالخطة تمسّ ثلاثة ملفات سيادية: الأرض، ومسار الانضمام إلى «الناتو»، وبنية الجيش. والقبول بهذه الصيغة الراهنة للخطة يعني تثبيت خسائر عميقة، وبيع الحرب لشعب عاش أربع سنوات على خطاب «الصمود حتى استعادة كامل الأراضي». لهذا، تحاول القيادة الأوكرانية في جنيف دفع واشنطن إلى تعديل البنود الأخطر، رغم البيانات المتفائلة من البيت الأبيض وكييف بشأن تقدّم في المسودة. ورفضها يفتح الباب لمزيد من الاستنزاف العسكري والاقتصادي، في وقت تتراجع فيه شهيّة الغرب لتمويل الحرب.
العواصم الأوروبية تحاول السير بين هذين الحدّين. أوروبا تدرك أن استمرار الحرب يرهق اقتصادَها وأمنَها، لكنها ترى أن شرعنة تغيير الحدود بالقوة تفتح سابقةً خطيرةً تتجاوز أوكرانيا إلى منظومة الأمن الأوروبي. لهذا يغلب على الموقف الأوروبي مزيج من البراغماتية والحذر، استعداداً للنقاش حول الخطة مع التشديد على سيادة أوكرانيا، والسعي إلى تعديلات على الخطة نفسها، كما تجلَّى في المسودة المضادّة التي قدّمتها دول أوروبا الثلاث المنشغلة بملف الحرب الأوكرانية.
السؤال الأعمق حالياً في أوروبا: هل ما يُطرح اليوم مجرد تسوية لملف أوكرانيا، أم أنه بداية لإعادة تشكيل النظام الأمني للقارة؟ إذا انتهت الحرب باتفاق يكرّس مكاسبَ روسيا الإقليمية، فإن ذلك سيغذّي شعوراً أوروبياً متزايداً بعدم اليقين تجاه المظلّة الأميركية، وسيعزّز الاتجاهات الداعية إلى استقلالية استراتيجية وبناء قدرات للتعامل مع الحرب الهجينة الروسية.
هل يملك ترمب مفاتيحَ نجاح هذه الخطة؟ واشنطن تمسك بعناصر ضغط على كييف، وتملك قنوات تواصل مع موسكو، لكنها لا تستطيع تجاهل حسابات أوروبا ولا الرأي العام الأوكراني. فالاتفاق المستدام يحتاج إلى صيغة تتيح للرئيس الأوكراني زيلينسكي تسويقَ التسوية بوصفها «سلاماً صعباً»، وإلى طمأنة الأوروبيين بأن ما يجري ليس صفقةً ثنائية بين واشنطن وموسكو على حساب أمن القارة.
هنا تبرز أهمية دور العواصم الموثوقة التي تجمع بين استقلال القرار، والتوازن مع الأطراف، ورصيد عملي في الوساطات الإنسانية والسياسية. أظهرت تجربة العامين الماضيين أن الإمارات واحدة من هذه الدول. أبوظبي لعبت دوراً محورياً في عمليات تبادل الأسرى بين موسكو وكييف، وفي تسهيل المساعدات الإنسانية. هذا النوع من الأدوار يوفّر مساحة ثقة بين الأطراف، ويمنح السلام فرصاً أكبر للاستمرار، عندما يكون محاطاً بشبكة ضمانات سياسية وإنسانية تتجاوز حسابات القوى الكبرى المباشرة.
خطة ترامب في صورتها الحالية تعكس لحظة اعتراف بأن الحرب وصلت إلى نقطة إرهاق. وما سيحسم مستقبلها ليس البنود ولا عناوين البيانات، بل القدرة على الجمع بين هواجس كييف وموسكو وأوروبا، وإشراك عواصم موثوقة في بناء الجسور بين هذه العوالم المتنازعة. عندها يتحوّل السلام من هدنة مؤقتة فوق جرح مفتوح إلى بداية لنظام أمني أكثر توازناً في أوروبا.
*كاتب إماراتي
إقرأ المزيد


