جريدة الإتحاد - 11/26/2025 11:57:12 PM - GMT (+4 )
شهد قصر هوفبورج في فيينا إمبراطورياتٍ وأحداثاً مختلفة، وتردّدت أصداء رقصات الفالس في قاعاته، حيث رقص السفراء مع الكونتيسات لإبرام المعاهدات وموازنة الطموحات الوطنية مع الطموح الإمبراطوري، قبل أن يصبح شاهداً على واحد من أحلك المنعطفات في التاريخ حين أعلن من شرفته أدولف هتلر ضمّ النمسا إلى ألمانيا النازية. واليوم، بات هذا المجمع مكرساً للسلام، إذ تتخذ منه «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» مقراً لها. لكن المجموعة التي أُسست لمساعدة العالم الحُر على الحوار مع الكتلة الشيوعية، فشلت في منع الحرب الروسية الأوكرانية. تفشل السياسة في تحقيق السلام في أماكن قد تنجح فيها الأعمال التجارية.
وكان التداخل بين الاثنين هو محور «منتدى بيتر دراكر العالمي» السنوي الذي عُقد هذا الشهر في قصر هوفبورج، مشيراً إلى أن الأعمال ليست حيادية، فهي تشكّل العالمَ وتستجيب للاحتياجات من خلال تنسيق العرض والطلب. لقد كان الإيمان الراسخ بضرورة تلبية احتياجات المجتمع محرّكاً رئيسياً للنمو عبر قرون. أدرك «بيتر دراكر»، الأب المؤسس لنظرية الإدارة الحديثة، هذه الحقيقة في كتابه الكلاسيكي الصادر عام 1946 تحت عنوان «مفهوم الشركة». وباستخدام شركة «جنرال موتورز» كمثال، بيّن أن الشركة ليست مجرد آلة للربح، وإنما مؤسسة اجتماعية، بل كائن حي، لا مجرد منظمة.
وأوضح كيف تتفاعل المالية مع التسويق في الشركة، وكيف تحتاج الأقسام المختلفة، مثل شيفروليه وكاديلاك، إلى المنافسة والاحتكاك، إلى جانب الترابط والقدرة على التكيف.. لكنها قبل كل شيء تحتاج إلى أن تُبنى على هدف، لا على كفاءة متخيلة. درس دراكر القانون والفلسفة السياسية في أوروبا ما بين الحربين العالميتين، وتأثر تأثّراً عميقاً بالمثقفين النمساويين في شبابه، ومنهم الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل «فريدريك هايك».
فقد تشارك الرجلان تشكيكاً في السلطة المركزية وإيماناً بحيوية المؤسسات التي تُسخّر المبادرات الفردية ضمن حدود أخلاقية وقانونية. وبينما رأى هايك في الأسواق وسيلةً لدمج وجهات نظر الأفراد كافة في فهمٍ اجتماعي مشترك، رأى دراكر في الإدارة ممارسةً أخلاقيةً تجعل هذا التنسيق إنسانياً ومثمراً. وفي كلتا الحالتين، هذا هو مفهوم العمل كسياسة. ليس بمعناه المبتذل حالياً، مثل شعارات البيئة والمسؤولية الاجتماعية والحوكمة (ESG) المستخدمة للتباهي الأخلاقي أثناء تجاهل الصناعات الضرورية التي تعتمد على الطاقة الكربونية أو تلك التي تصنع الأسلحة التي تدافع بها الدول عن مواطنيها، وإنما بالمعنى الأقدم والأعمق للسياسة باعتبارها الطريقة التي نحكم بها أنفسَنا، ونشكّل بها معاييرَ مجتمعنا، ونتقاسم بها المسؤولية والمكافأة.
وفي ذلك، كان دراكر وهايك يستلهمان تقليداً أقدم: فلسفة الكويكرز، وهي جمعية الأصدقاء الدينية التي نشأت في القرن الـ 17 في إنجلترا على يد جورج فوكس. فقد رأت أُسر مثل باركلي، ولويدز، وكادبوري التجارةَ مشروعاً قائماً على حس ديني بالوصاية والمسؤولية الاجتماعية: الصدق في التجارة، واللياقة في العمل، والاقتناع بأن الربح بلا هدف هو ربح باطل. أصبحت مصارف الكويكر أساسَ النظام المالي البريطاني، لأنها كانت مستعدةً للنظر إلى كل قرض وفقاً لاستحقاقه، معتبرةً الثقةَ تعبيراً عن الاتساق الأخلاقي وأن الجميع خُلقوا متساوين.
لم تكن تلك المصارف تنخدع بالرتبة أو اللقب، بل كانت تدعم كلَّ من يسعى للنهوض بالمجتمع. كانت سياستهم ضمنية، لكنها تحوّلت إلى قوة تغيير: ليبرالية وإصلاحية، ومموّلة للزيادة الهائلة في النشاط التجاري في بريطانيا القرن الـ 19. لقد برهنوا على أن رأس المال الساعي إلى الربح يمكنه أن يخدم الضمير كما يخدم التجارة. ولم يكن الممولون وحدهم مَن تبنّى هذا النهج. ففي عام 1841، أسس «توماس كوك» ما أصبح لاحقاً أكبر شركة سفر في بريطانيا وبناها على فكرة بسيطة: ينبغي للرجال ألا ينفقوا أموالهم على الأطعمة الشهية، بل يدخروا ما كانوا سينفقونه عليها ليدفعوا نفقات رحلة عائلية إلى الساحل.
لقد ربطت خطة الادخار الجديدة التي ابتكرها كوك بين الحركة والإصلاح الأخلاقي، مانحةً مناخاً أفضل لمن تغريهم محلات الجن في مصانع المدن المظلمة الشيطانية. وبعد بضعة عقود فقط من تلك الرحلة الأولى بالقطار إلى الساحل، أصبحت هناك رحلات إلى النيل أو الهند. وأدى التزام كوك الراسخ بالاعتدال، الذي عزّزته أخلاقه الدينية وعقليته التجارية، إلى نشوء صناعة كاملة: السياحة. أما الحظر، وهو البديل السياسي، فقد أدى إلى الجريمة. لقد فهم هؤلاء المموّلون والصناعيون أن الأعمال تقوم على الهدف الاجتماعي والحوكمة المسؤولة. واليوم، لا تزال هذه القيم حية في بعض الشركات، بينما تكشف شركات أخرى عن خوائها.
ما هو الجانب البيئي في نقل الوظائف من أوروبا التي تعتمد على الطاقة النظيفة إلى الصين التي تعتمد على الفحم؟ أو الجانب الاجتماعي في رفض الاستثمار في الأسلحة لحماية الأوكرانيين؟ أو كيف تتوافق الشراكة مع شركات تستخدم العمل القسري في بعض المناطق مع أي مبادئ حوكمة محترمة؟
لقد ترك العمل التجاري، كمسرحية هزلية، الكثيرين في حالة من الفتور، خاصةً عندما يُظهر الآخرون أنه يمكنك تحقيق النجاح من خلال فعل الخير. إن توفير الوظائف للعائلات، والدفاع عن الحلفاء، وخلق الفرص.. هي السياسة الحقيقية للأعمال. ومن خلال التعاون الهادئ بين أفراد يعملون سوياً عبر المؤسسات التجارية، نجد كدول ومجتمعات حلولاً أكثر مرونةً للتحديات التي نواجهها كل يوم. ومن دون استعراضات السياسة، تصبح سياسة الأعمال، بالمعنى الصحيح، هي سياسة السلام.
*برلماني بريطاني محافظ وزميل بارز في معهد هدسون.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»
إقرأ المزيد


