البحر المتوسط.. الجغرافيا ترسم التاريخ
‎دار الخليــــج -

القاهرة: الخليج

يكتسب كتاب «القوى البحرية في البحر المتوسط.. من القرن السادس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر»، للدكتور عبد اللطيف عبد الغني مشرف، أهميته، ليس فقط بما يقدمه من سرد تاريخي موثق، لتلك المعارك التي شهدها حوض البحر المتوسط خلال تلك الحقبة الزمنية الملتهبة من التاريخ، بين أكبر قوتين دوليتين في تلك الفترة، وهما مملكة إسبانيا في الغرب، والدولة العثمانية في الشرق، من أجل الهيمنة والسيطرة على سواحل هذا الحوض الاستراتيجي الكبير، وإنما أيضاً من كونها أحدث دراسة علمية صدرت حول تلك الحقبة المهمة، والتي بلغت فيها الدولة العثمانية أوج قوتها ممثلة في طموحها التوسعي، في مواجهة صعود القوة الإسبانية بعد توحيدها على يد فرديناند وإيزابيلا.

على مر التاريخ لعبت منطقة حوض البحر المتوسط، دوراً كبيراً في تشكيل قوى العالم الجديد، ممثلة في القوى البحرية التي مارست الدور الأكبر بحسب ما يذهب الكتاب، في صياغة التاريخ الحديث.

يرصد الكتاب خلال القرن السادس عشر، ملامح تلك الفترة التاريخية التي شهدت توسع الدولة العثمانية على سواحله، وکذلك الرغبة الأوروبية المتمثلة في القوة الإسبانية وغيرها في السيطرة على البحر المتوسط؛ ويؤكد أن هذا الصراع لم يقتصر فقط على الدولة العثمانية أو الإسبانية؛ بل امتد إلي أطراف دولية وإقليمية أخرى؛ إذ شكل موقع البحر المتوسط، نقطة مهمة في استراتيجية كل الدول المطلة عليه، وهو ما دفع هذه الدول الى الاهتمام دائماً، ببناء قوة بحرية تستطيع من خلالها السيطرة عليه، وحسم أية معركة بحرية مع أية قوة بحرية أخرى، وهو ما تجلى خلال القرن السادس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادي، وهي الحقبة التاريخية التي شهدت أهم المعارك البحرية، المعروفة باسم معركة ليبانتو عام 1571، بين تحالف دول أوروبية بزعامة إسبانيا ضد الدولة العثمانية، والتي ينظر إليها باعتبارها المعركة الفاصلة التي قلصت من النفوذ العثماني، ووضعت تلك الدولة الفتية على أول طريق الأفول.

يقدم الكتاب توثيقاً تاريخياً لتفاصيل تلك المعركة، التي بدأت منذ أدرك التحالف الغربي أن استمرار الغارات العثمانية على شواطئ أوروبا الجنوبية، خصوصًا في غرب المتوسط وإيطاليا وما حولها، خطر لا بد من معالجته على وجه السرعة، وكسر أي فرصة للهيمنة العثمانية التي بدأت بسبب تهور السلطان سليم الثاني، ورغبته المعلنة في الاستيلاء على قبرص التي كانت خاضعة لسيادة جمهورية البندقية في تلك الفترة، ولم تكن تمثل أي خطر على الملاحة العثمانية، وقد كانت تلك الرغبة سبباً رئيسياً في قلب موازين القوى البحرية في المتوسط؛ إذ لجأت البندقية إلى الغرب، لمساعدتها على مواجهة البحرية العثمانية، واستطاع بابا الفاتيكان إقناع الإمبراطور وأخيه ملك إسبانيا، بالتحالف لصياغة تحالف مقدس لكسر الدولة العثمانية بحرياً. وقد وافقت الأطراف على التحالف، فالبندقية كانت تريد استعادة قبرص، والإمبراطور كان يريد كسر الهيمنة العثمانية، بينما إسبانيا تسعى إلى التخلص من المناوشات البحرية على حدودها من قبل المسلمين بمن فيهم العثمانيون، وهكذا تجمعت المصالح كلها ضد الدولة العثمانية، بسبب كسر سليم الثاني التوازن السياسي والبحري في المتوسط، الذي بدأت فيه المواجهة بإعلان التحالف المقدس، في مايو/ أيار عام 1571.

وقد ساهمت إسبانيا التي كانت تمثل القوة الأوروبية الصاعدة في ذلك الوقت، بعد اكتشاف الأمريكيتين، بنحو نصف القوة البحرية للتحالف، ووضعت البندقية أسطولها، لخدمة جهد التحالف الذي بدأت أساطيله تتجمع في ميناء «ميسينا» الإيطالي بجزيرة صقلية، حتى وصلت إلى قرابة ثلاثمئة سفينة، وما يقرب من خمسين ألف بحار، ومعهم قرابة ثلاثين ألف جندي على متن هذه السفن، في وقت كان فيه الأسطول العثماني يعاني الإنهاك، بعد محاولاته اليائسة في الاستيلاء على ميناء «فماغوستا» القبرصي، تحت قيادة علي باشا قائد الأسطول. وقد استطاع علي باشا أن يجمع نحو 250 سفينة، وتأهب لمواجهة أسطول التحالف بالقرب من بلدة ليبانتو اليونانية، إيذاناً ببدء المواجهة البحرية بين الطرفين للسيادة على البحر المتوسط.



إقرأ المزيد