الحضارة تبدأ بالأسطورة وتنتهي بالشك
‎دار الخليــــج -

القاهرة «الخليج»

يرى «إميل سيوران» في كتابه «السقوط في الزمن» (ترجمه إلى العربية آدم فتحي) أن الإنسان حول وجهة قدراته ناحية الخارج، ناحية التاريخ عوضاً عن بذل قصارى جهده للعثور على نفسه ولالتقاء ذاته وعمقه اللازماني، لو استبطن تلك القدرات، وغير اتجاهها وطريقة استعمالها لنجح في ضمان خلاصه. وكما يقول: ليته بذل جهداً على النقيض من ذاك الذي يتطلبه الانخراط في الزمن، نحن نستهلك من الطاقة كي ننجو بقدر ما نستهلك منها كي نهلك، الإنسان منذور للفشل وفي هلاكه دليل على امتلاك ما يلزم من القوة لتجنب الفشل، شريطة الامتناع عن مناورات الصيرورة، غير أنه ما إن اختبر غواية تلك المناورات حتى استسلم لها حد الانتشاء.

تحت عنوان «بورتريه المتحضر» يكتب «سيوران» أن الأهمية التي يوليها الإنسان المتحضر إلى الشعوب، التي تسمى متخلفة، هي أكثر ما يثير الريبة، فهو يعجز عن تحمل نفسه أكثر، فيعمد إلى التنفيس في تلك الشعوب عن فائض الأمراض التي تتكالب عليه، ويناشدها لتواجه مصيراً لم يعد قادراً على الاستئثار به وحده، لقد بلغ به الإفراط في اعتبارها محظوظة بعدم الارتقاء، حتى بات يشعر تجاهها بحفيظة مراهن خائب مختل التوازن.

كأن هذا الإنسان المتحضر يقول لنفسه: بأي حق تبقى تلك الشعوب على انفراد، خارج سير الانحطاط الذي يعاني هو منه منذ القدم، دون أي إمكانية للإفلات؟ تبدو له الحضارة، عمله وجنونه، شبيهة بعقوبة، حكم بها على نفسه، وبات راغبا بدوره في إنزالها بكل من ظل ناجياً منها، حتى الآن.

لقد أنهكته عيوبه وأنهكته أكثر منها «أنواره» حتى بات لا ينفك عن السعي إلى تسليطها على كل الذين ظلوا خالين منها، لقد كان على الإسبانيين في ذروة مجدهم أن يشعروا بدون شك بقوة الضغط بين مقتضيات الإيمان وصرامة الكنيسة، فانتقموا عن طريق الفتح، حسب سيوران.

يشير سيوران إلى أن الحضارة تبدأ بالأسطورة وتنتهي بالشك، شك نظري ما إن تقلبه في اتجاهها حتى يكتمل بشكٍّ عملي، ليس في وسع الحضارة أن تبدأ بمساءلة قيم لم تخلقها، لكنها ما إن تنتجها حتى تسأم منها، وتنفصل عنها، فإذا هي تفحصها وتزنها بموضوعية مدمرة، إنها تضع نسق شكوك محل المعتقدات التي أنجبتها، والتي هي الآن في مهب الريح، وتنظم غرقها الميتافيزيقي، وتنجح فيه بشكل رائع، حين يساعدها عليه أحد.

يرى سيوران أنه على كل من يحرص على توازن تفكيره، أن يمتنع عن المساس ببعض الخرافات الجوهرية، تلك بالنسبة للعقل حاجة حيوية لا يعبث بها إلا الشكاك، الذي ليس لديه ما يحافظ عليه، لذلك لا يحترم لا الأسرار ولا المحرمات الضرورية لديمومة كل يقين. ويشير إلى أن الظاهرة الهمجية التي تحدث حتماً في بعض المنعطفات التاريخية قد تكون شراً، لكنها شر ضروري، فضلاً عن أن الطرق التي نستخدمها في محاربة الهمجية قد تسرع في ظهورها، بما أنها تحتاج إلى أن تكون وحشية كي تكون ناجعة، وهو ما ترفض الحضارة أن تنخرط فيه.



إقرأ المزيد