عالم ليس لنا
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

لو تصحو طفلة صباحاً، وتحمل حقيبتها المدرسية، وهي محملة بآمال طفولية خضراء، وبالصدفة أدار والدها مفتاح المذياع في سيارته، واستمعت إلى نشرة الأخبار، وأصمّت أذنيها أخبار الصراعات التي تدور رحاها في مختلف أنحاء العالم، وفي مقدمتها ما يحدث في غزة، لا شك أن هذه الطفلة سوف تصاب بانفصام في الشخصية، ولا شك أنها سوف تشعر بتمزق في حاسة السمع، وهي تتابع صوت المذيع، المشروخ، وهو ينطق الكلمات بنغمات تبدو مثل تصادم أدوات المطابخ المعدنية.
سوف تخرج هذه الطفلة من خيمة الأحلام الزاهية، وتدخل غرفة إنعاش نفسي، مذهلة، وسوف تعاني من انسداد في الشعب الهوائية، وسوف ترفع بصرها، وتنظر إلى وجه أبيها المكفهر، وتتابع النشرة الإخبارية على وجه أبيها، وملامحه القاتمة، ونظراته المتناهية إلى اللاشيء، ثم سوف تلتفت إلى حقيبتها المدرسية، وتحاول أن تخرج كتاب التربية الإسلامية، تقلب صفحاته، وتقرأ بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى التسامح، ثم تقع عيناها على حديث شريف من كلام خير البشرية بقوله: إن المؤمن من آمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
وبينما هي تقرأ هذا الكلام القرآني الكريم، تسمع التلاطم بين الأمم في السباب، والشتائم، واللعنات، إضافة إلى نيران الحديد، وبأسه الشديد، وهو يدك مساكن الناس الآمنين، ويثير فزعهم، تذكرت الطفلة أطفالاً آخرين في أماكن مختلفة من هذا العالم لا يجدون الحذاء الذي يحملهم إلى مدرستهم، ولا يعثرون على الحقيبة التي تضم كتبهم، ولا ينالون حقهم في شطيرة جبنة، تكفي حاجتهم من الغذاء، بل إن شعوباً اليوم تعاني من انعدام أبسط مستلزمات الحياة، لأن الصراع بين الأديان، والأعراق، والألوان على أشده، مما يمنع القناعة بأهمية أن نكون معاً ضد العصاب القهري، وكل ما يعلق النفس بأوهام، وخيالات لا أساس لها من الصحة، ولا واقع لها إلا في النفوس المريضة.
سوف تنزل هذه الطفلة من سيارة والدها، وتودعه، وفي رأسها سؤال، (من أنا).
إلى من أنتمي، هل لدين معين، أم للغة، أم لون، أم عرق؟ كل هذه الأسئلة سوف تشق شرخاً دامياً في روحها، وتجعلها وهي تجلس على مقعد الدرس، تفكر في عالم يموج، بعواصف التشققات في قماشة الوعي، عالم يمتلئ بغبار الصراعات العبثية، عالم يحكمه الغوغائيون والحاقدون على الإنسانية، بحجة الانتماء إلى دين، أو عرق.
وسوف تكبر هذه الطفلة، ومعها سيكبر الجرح الساخن، ولن تشفى ما دام الوعي ليس أكثر من مكب نفايات، والقلب خيمة تداعت أعمدتها، والروح طائراً فقد الجناحين، وحط على الأرض، خافق القلب، فاقد الحرية.
لا بد أن هذه الطفلة سيأتي يوم وتقول: (عالم ليس لنا) لأنه عالم انفك عن الفطرة، وهرب من التزاماته الأخلاقية، تجاه الأرض أولاً التي أحرقها بنيران بطشه، وثانياً، تجاه أخيه الإنسان الذي أبعده عن ملته، وجبلته، وصار في الحياة يبحث عن البقاء، وليس عن الحياة.



إقرأ المزيد