ابن سينا يجول في المعرض
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

بينما كنت أجول في المعرض، تعثرت بابن سينا، كان الرجل يقرأ وجوه المارة، والباحثين عن معنى، وكان ينظر بعين عالم النفس، الذي أذهله هذا الحفل الكبير، والاحتفاء بالكتاب، فتوقف، ونظر إلى الأروقة المزدحمة بالعيون التي في طرفها سؤال الوجود، عيون كأنها النجوم تتفشى في المكان، فتلهمه براعة، وتلهمه يراعاً، تلهمه إبداعاً في معرفة الأنا، وكيف يكون لها صدى مدوٍّ عندما تلتحم بالآخر، وتفتش في التفاصيل عن كنه هذه العلاقة التاريخية الفطرية بين الثقافات مهما تباعدت حدود الجغرافيا. 
ابن سينا يحضر اليوم في أبوظبي العاصمة الجميلة، ويجلس مقتعداً كرسي الاعتراف بأن الحياة ليست إلا سؤالاً مشدوداً بين ورقتين، ورقة الميلاد، وورقة التقدم نحو المستقبل، وكلتاهما في البداية تغدقان على الإنسان مزيداً من معرفة نفسه إذا تمكن من جعل المعنى للحياة أصل التقدم، كما أنه بداية الميلاد. 
في المعرض دهمني سؤال قديم، قدم عمر الكتاب، لماذا نقرأ؟ شعرت حينها بوخزة مؤلمة في قلبي، شعرت بأن قلبي يخرج من بين الضلوع ليحتضن هذا العملاق، هذا الرجل الذي جعل من تحليل الذات البشرية وسيلة لاستمرار الحياة من دون منغصات، ولا مركبات نقص، وجعل من الحب أول دراسة لمعرفة ما يجول في الداخل. 
في المعرض نظرت إلى وجه ابن سينا، وقرأت أسباب الحضارة العربية وكيف كانت، وكيف نشأت، وتطورت، وتفرعت، وازدهرت، وعانقت شغاف النجوم، فأجابني الرجل الشهم، وقال، لأن الإنسان العربي مني بطموحات واسعة الظلال، وهي التي جعلته يقرأ، ويقرأ، ومن خلال القراءة، تمكن من فهم الطريق الموصل إلى التطور، والاستدلال على الوعي بأهمية أن تكون القراءة الطريق إلى الالتحام بالعالم والتداخل معه، والتواصل معه، والانسجام مع الحضارات الأخرى، وجعل القراءة هي اليد الطولى التي تشكل الوجدان بريشة فنان اسمه الضمير الجمعي.
عندما تركت المكان المزخرف بمنتجات العقل الحضاري الذي رسمه ابن سينا، شعرت بأنني أودع صديقاً في عمر الزهور؛ لأن العلماء لا يشيخون طالما هناك احتفاء بمنجزاتهم، وطالما هناك فكر راسخ في الذاكرة الجمعية، بأن الفيلسوف هو ميسم الحياة، وهو ترياقها، وهو بريقها الذي لا ينطفئ. 
كان الضوء الذهبي يسلط على وجه شيخ الفلسفة، ويجعله مثل مرآة وجودية عملاقة، وكانت في عينيه تطل صورة العالم كما هو قبل أن تدخل إلى بيته ذرات الغبار، كانت سحنته تفسر كيف أن الفلسفة عندما تستوطن قلب الإنسان، فإنما تصعد به إلى حيث تكمن النجمة، وحيث تمشي الغيمة جدائل وعيها. 
ابن سينا في تاريخنا، كما هو ابن رشد، الاثنان جعل أحدهما من الفلسفة طريقاً لحل معضلات الكون، والآخر سار في دروب علم النفس، فأيقظ الوعي البشري من سباته، وقاده إلى حيث تقود الشمس جحافل أنوارها.



إقرأ المزيد