السودان.. وغياب المشروع الوطني
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

هل ما يحدث اليوم في السودان صراع داخلي مسلح تقليدي، أم أنه الوجه الأوضح لفشل دولة ما بعد الاستقلال في بناء مشروع وطني جامع؟

وهل الحرب الأهلية هي العنوان الظاهر لأزمة أعمق تتعلق بانهيار مكونات الدولة ذاتها، لا بصراعات مرحلية بين قوى متناحرة؟ وكيف يمكن فهم المشهد السوداني بمعزل عن التاريخ الطويل من سوء الإدارة، وتفكيك مؤسسات الدولة، وتوظيف الدين والهوية كأدوات للهيمنة والتعبئة، الأمر الذي بلغ ذروته في عقود الحكم «الإخواني» الذي حّول الدولة إلى أداة للصراع، لا إلى إطار للتعايش والتدبير المشترك؟

وبعد الادعاءات الباطلة التي وجهتها القوات المسلحة السودانية للإمارات، جاء تقرير لجنة الخبراء الأممية المعنية بالسودان، ليفند هذه الادعاءات.

التقرير فضح محاولات التشويش على الحقائق، عبر الإساءة لسمعة الإمارات دون تقديم أي أدلة، وكشف محاولة التغطية على الجرائم والانتهاكات التي يتعرض لها المدنيون في السودان. التقرير لم يتضمن أي استنتاجات تشير إلى ضلوع الإمارات في النزاع، وهو ما تؤكده الدولة، حيث ظلت على الدوام سنداً داعماً للشعب السوداني، عبر المساعدات الإنسانية وبذل الجهود الدبلوماسية المتواصلة لتعزيز الأمن والاستقرار، وأكد التقرير مصداقية دولة الإمارات والتزامها التام بالقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة.

أما على مستوى الخطاب السياسي، فقد أظهرت القوات المسلحة السودانية عجزاً عن الاعتراف بجذور الأزمة، فبدلاً من مواجهة التحديات البنيوية الموروثة عن سنوات الحكم السابق، لجأوا إلى توجيه اتهامات بلا أدلة للإمارات، وإعادة إنتاج الآليات الإقصائية نفسها، مع إحياء شبكات النفوذ «الإخواني» بأسماء جديدة وتحالفات ظرفية.

لم يكن الخطأ في مجرد الانقلاب على المسار الانتقالي، بل في القناعة المترسخة بأن الحسم العسكري يمكن أن يشكل بديلاً عن الحوار الوطني الشامل، في وقت يتطلب فيه السودان استعادة الثقة بين مكوناته، وبناء عقد اجتماعي جديد يعترف بالتعدد ويحمي التنوع. في الميدان الإنساني، تزداد الكارثة تعقيداً مع استمرار النزوح الجماعي وبلوغ أعداد اللاجئين السودانيين أرقاماً غير مسبوقة، وسط نقص حاد في المساعدات الدولية وتراجع الاهتمام العالمي بالملف.

اللافت أن السودان، رغم هذه المأساة، لم يجد له مكاناً ضمن أولويات العواصم الكبرى، بينما أضحى الجوار المباشر في تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا مسرحاً لأزمات متداخلة، تغذي بعضها بعضاً، وتفتح الأبواب أمام دوامة جديدة من عدم الاستقرار في الإقليم كله. لم يعد الصراع محصوراً في الخرطوم أو دارفور أو كردفان، بل صار يعاد تشكيل الخريطة السودانية وفق قواعد قتال لا تخضع لمعايير السياسة بقدر ما تحتكم إلى منطق الفوضى المسلحة.

ومع اتساع هذا المشهد، تتضاءل فرص بناء جيش وطني موحد أو سلطة انتقالية تحظى بالشرعية. في السودان اليوم، لا توجد مؤسسات قادرة على فرض القانون أو توفير الحد الأدنى من الحماية والخدمات، وبات الشعب السوداني يعاني من جغرافيا ممزقة تتقاسمها جماعات مسلحة، بعضها له مرجعيات عابرة للحدود، وبعضها الآخر يستند إلى حسابات جهوية أو إثنية ضيقة، وسط غياب أي مشروع سياسي وطني حقيقي يمكن أن يعيد توحيد البلاد.

في ظل هذا الفراغ السياسي والأمني، تحوّل السودان إلى نقطة جذب خطرة لكل التنظيمات المسلحة والجماعات المتطرفة والهاربين من صراعات أخرى في أفريقيا، حتى باتت أراضيه ممراً ومنطلقاً لحروب تهدد الاستقرار الإقليمي برمته. والتساؤل الذي يطرح نفسه:

هل يمكن أن ينبثق من بين هذا الركام السوداني مسار عقلاني ينقذ ما تبقى من الدولة، أم أن الانهيار سيتحول إلى قاعدة جديدة تعيد رسم ملامح المنطقة على إيقاع الميليشيات والخرائط المتحركة؟ وهل هناك من يزال يمتلك الشجاعة الكافية للاعتراف بأن التحدي الحقيقي في السودان لم يكن يوماً مجرد صراع عسكري على السلطة، بل هو أزمة مشروع وطني لم يولد بعد؟

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة.



إقرأ المزيد