جريدة الإتحاد - 8/27/2025 12:28:40 AM - GMT (+4 )

لم تعد العلاقة بين الصين والعالم الإسلامي شأناً دبلوماسياً عابراً أو تواصلاً بروتوكولياً محدوداً، بل صارت مكوّناً أساسياً في هندسة المستقبل العالمي، حيث يتقاطع البعد الثقافي العريق مع الرهانات الاستراتيجية الراهنة. وفي الزيارة الأخيرة التي شملت عدداً من المدن الصينية الكبرى، بدا المشهد وكأنه عودة حيّة إلى طريق الحرير، حين كان التجار والعلماء والقوافل يحملون البضائع والمعرفة، ويزرعون جسوراً ممتدة من سمرقند وبغداد إلى قاشغر وبكين.البعد الثقافي لهذه الرحلة ظهر منذ اللحظة الأولى في الأسواق الشعبية التي لا تزال تحافظ على نكهة التاريخ.
هناك، كان الحضور الإسلامي واضحاً في المأكولات الحلال، في عمارة المساجد، وفي ملامح الناس الذين استقبلوا الضيوف بابتساماتٍ صافية. الثقافة هنا ليست مجرد فولكلور، بل هي تعبير عن ذاكرة ممتدة لمجتمع يتجاوز عدده اليوم المائة مليون مسلم، يمثّلون أحد أوسع الجسور الإنسانية بين العالم الإسلامي والدولة الصينية.
المؤسسات التعليمية الدينية والعلمية التي تمت زيارتها تذكّر بأن شينجيانغ وأورومتشي وكاشغر ليست أطرافاً بعيدة، بل مراكز إنتاج حضاري. في معاهد العلوم الإسلامية وجامعات الإقليم، يتلاقى التكوين الشرعي بالبحث الأكاديمي الحديث، ويجري إعداد أجيال جديدة قادرة على الجمع بين الهوية الدينية والاندماج في مشروع الدولة الوطنية. هذا البعد التعليمي يكشف أن الصين تدرك جيداً أهميةَ بناء قاعدة معرفية للمسلمين، ليس فقط من أجل إدارة التنوع، بل أيضاً لتمكينهم من المشاركة الفاعلة في النهضة الوطنية.
أما الاستقبال في المساجد، فقد كان تعبيراً رمزياً عن استمرارية الوصل الحضاري. المصلون الذين توافدوا للسلام، والنساء اللاتي قدّمن الطعام، والأطفال الذين التفوا حول الزائرين، كلهم كانوا يرسلون رسالة بسيطة: أن الإسلام هنا جزء من النسيج الصيني، وأن الحفاظ على هذا المكوّن جسر لبناء الثقة بين الصين والعالم الإسلامي. وفي الأطباق المحلية التي جمعت بين الذوق الآسيوي وضوابط الحلال، وجدنا مثالاً ملموساً على التعايش بين الخصوصية والانفتاح.
استراتيجياً، تأتي هذه الزيارة في سياق عالمي يتجه شرقاً. الصين بمشروع «الحزام والطريق» تعيد بناء شبكات الربط التجاري والثقافي مع أكثر من ستين دولة، كثير منها ذات أغلبية مسلمة. ومن هنا، يصبح الاستثمار في البعد الثقافي ضرورة سياسية كذلك، لأن الثقة المتبادلة تُبنى أولاً على قاعدة الاحترام الحضاري. إن التواصل المباشر مع المسلمين في الصين، وتأكيد انتمائهم المزدوج: إلى أمتهم الإسلامية وإلى دولتهم الوطنية، يعزّز صورة الصين شريكاً جديراً بالثقة، لا قوةً اقتصادية كبرى فحسب.
لقد أبرزت الزيارةُ أن مسلمي الصين ليسوا مجردَ أقلية عددية، بل جسراً استراتيجياً بين عالمين. هذا الجسر، إذا ما أُحسن دعمه ثقافياً وتعليمياً، يمكن أن يكون منصة للحوار بين الحضارات، ومختبراً عملياً لإمكانية التوازن بين الهوية الدينية والانتماء الوطني. وهنا تكمن القيمة المضافة: فالعالم الإسلامي يجد في الصين شريكاً حضارياً صاعداً، والصين تجد في المسلمين داخلها وخارجها بوابة طبيعية إلى قلب الأمة الإسلامية الممتدة من طنجة إلى جاكرتا.
إن ما شهدناه لم يكن مجرد برنامج زيارات رسمي، بل تجربة حيّة تعكس كيف يمكن للثقافة أن تتحول إلى أداة استراتيجية، وكيف يمكن للبعد الحضاري أن يُعيد صياغة السياسة. فالعلاقات بين الصين والعالم الإسلامي لن تُقاس فقط بميزان التجارة أو الاستثمارات، بل بقدرتها على إحياء هذا المكوّن الإنساني الواسع الذي يتجاوز المائة مليون مسلم في الداخل الصيني، ويشكّل امتداداً روحياً لمليار ونصف المليار مسلم حول العالم. وإذا كانت قوافل طريق الحرير قد مهّدت يوماً لقرون من التبادل، فإنّ المطلوب اليوم هو تجديد تلك الروح، بوعيٍ جديد يدرك أن المستقبل العالمي لا يُبنى إلا على جسور الثقافة والحوار والتفاهم.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
إقرأ المزيد