جريدة الإتحاد - 11/9/2025 11:04:31 PM - GMT (+4 )
تدخل المنطقة اختباراً دقيقاً مع انطلاق النقاش في «المرحلة الثانية» من اتفاق إنهاء الحرب في غزة. قوةُ استقرارٍ دولية، ونزعُ سلاحٍ كامل، وترتيباتُ حكمٍ انتقالية. المعادلة معقّدة، لكن ملامح التوازن الجديد باتت أوضح. دول الخليج صارت مركز ثقلٍ يضبط الإيقاع، فيما تعيش إسرائيل جدلاً داخلياً حول نظامٍ إقليمي يتشكّل من دون قيادتها.
وتتحرّك واشنطن لتمرير تفويضٍ أممي لقوةٍ متعددة الجنسيات بولايةٍ انتقالية قد تمتد حتى 2027، بمهام تشمل حماية المدنيين والممرات الإنسانية، إنفاذ القانون، وتأمين الحدود، مع نقاشٍ حاد حول قواعد الاشتباك. إسرائيل تشدّد على «نزع سلاح حماس أولاً»، فيما تقبل السلطة الفلسطينية المبدأ شرط أن تدخل الشرطة الفلسطينية إلى القطاع جنباً إلى جنب مع القوة الدولية، اتساقاً مع وحدة الإطار السياسي والإداري بين الضفة وغزة.
وهنا تكمن خطورة الانتشار الدولي بلا ولايةٍ فلسطينيةٍ ظاهرة، ولا بنود انقضاء زمنية واضحة، ما قد يتحوّل إلى وصايةٍ تُكرّس الانقسام بدل تجاوزه.
وعلى ضفة التمويل والضمانات تتبنّى العواصم الخليجية مقاربةً مشروطة. إعمارٌ يتقدّم بقدر ما يتقدّم الأمن والحوكمة، فالمطلوب تفويضٌ واضح للقوة الدولية، وقواعد اشتباك تضبط أيّ انزلاق، وحضورٌ فلسطيني مهنيّ في الشرطة والقضاء والإدارة منذ اليوم الأول، مع مسارٍ سياسي لا رجعة فيه نحو الدولة. هكذا يتحوّل الاستثمار إلى أداة استقرار، وتصبح الشراكة مع واشنطن وسيلةً لكبح المغامرات أحادية التكلفة، بدل أن يغدو الإعمار جسراً مؤقتاً فوق فراغٍ سياسي يعيد إنتاج العنف. وبذلك، يتبلور شرق أوسط جديد برعايةٍ خليجية. فبدلاً من منطق الحسم العسكري، يقدّم الخليج مقاربة الاستقرار عبر الاقتصاد والوساطة والتهدئة.
ولا بد أن تقتنع إسرائيل أن أمنها يبدأ باقتناعها بمستقبل حل الدولتين، فلا يمكن أن يتحقق الأمن عبر اختزال الدولة في آلةٍ عسكرية، الأمن المستدام يولد من تسويةٍ تعترف بحق الفلسطيني في دولةٍ قابلةٍ للحياة، ومن كسر ذهنية الإدارة بالأزمات. ولدى الفلسطينيين، لا تقوم الدولة الحديثة على ازدواجية السلاح والسياسة. الميليشيا -أياً كان لونها- تنسف شرعية القانون وتمنع توحيد المؤسسات. المقاربة العقلانية تُعيد البوصلة إلى مشروع الدولة الوطنية المدنية، لا إلى اقتصاد الميليشيات وشعارات المزايدة.
الواقعية الإماراتية تبرز في معادلتها للاستدامة.
الإنسان أولاً، بوقفٍ فوريّ للحرب ومضاعفةٍ للدعم الإنساني وممرّاتٍ آمنةٍ لا تتقطّع. أمّا الاستدامة، فتعني تجفيف خطاب المتطرفين ونزع سلاح التشكيلات الخارجة على الدولة، واقتران ذلك بإصلاحٍ جادّ للسلطة الفلسطينية، وتوحيد مؤسساتها، مع وضوحٍ وشفافيةٍ في المراحل التالية من «خطة ترامب للسلام» خصوصاً الترتيبات الإدارية واللوجستية. هكذا تُضبط الآن ويُؤمَّن الغد ويُصان المستقبل على طريق حلّ الدولتين من دون العودة إلى مربع الحرب.
والمرحلة الثانية ليست تقنيةً ولا أمنيةً صرفاً، إنها امتحانٌ لإرادة تغيير منطق إدارة الصراع. فإذا تقدّم الخليج بصيغته المتوازنة، وإذا اقترنت القوة الدولية بولايةٍ فلسطينية، وإذا انتقل النقاش في إسرائيل من إدارة الحرب إلى هندسة السلام، أمكن لهذه الهدنة أن تتحوّل من استراحة محارب إلى بداية نظامٍ إقليمي أكثر اتزاناً. أمّا البديل، فهو تدوير الأزمة بقوالب جديدة تُعيد إنتاج العنف بأسماء مختلفة. في زمن ما بعد الحرب، لا يكفي وقف النار، المطلوب معادلةُ استدامةٍ تصنع سلاماً يعيش.
*كاتب إماراتي
إقرأ المزيد


