صحيفة الخليج - 9/21/2023 11:45:52 PM - GMT (+4 )
د. محمد فراج أبو النور*
الكارثة الهائلة التي حلت بمدينة درنة الليبية، والمناطق المجاورة لها، لا تزال فصولها المأساوية تتوالى، منذ أن ضربها الإعصار «دانيال»، والسيول الجارفة التي رافقته، ما أدى لانهيار سدّين يقعان في المرتفعات المطلة على المدنية، ليندفع طوفان مدمر جرف كل شيء، في طريقه، بما في ذلك مئات البيوت التي حوّلها إلى أنقاص، وقذف بها وبسكانها إلى البحر.
الكارثة التي وقعت فجر الاثنين (11 سبتمبر/ أيلول)، بلغ التقدير الأولي لضحاياها ثلاثة آلاف شخص، وألحقت دماراً شاملاً بربع مساحة المدينة (ست كيلومترات مربعة)، ودمرت بصورة كاملة نحو (تسعمئة مبنى)، بسكانها، وأزالتها من على وجه الأرض، كما لو كانت المنطقة تعرضت لضربة نووية. بينما تعرض أكثر من مئتي مبنى سكني لتدمير جزئي، وتعرضت مئات المباني الأخرى لخسائر متفاوتة، كما دمرت السيول الجسور التي تربط بين شطري المدينة، وأجزاء كبيرة من طرقها، ومرافق البنية التحتية فيها.
تقديرات متضاربة
ومع بدء جهود الإنقاذ وانتشال جثث الضحايا بدأت التقديرات حول أعداد الضحايا ترتفع باستمرار، حتى وصلت قبل مرور أسبوع من وقوع الكارثة إلى (أحد عشر ألفاً وثلاثمئة قتيل)، قابلة للزيادة، إضافة إلى أكثر من عشرة آلاف مفقود، حسب تقديرات مكتب الشؤون الإنسانية التابعة للأمم المتحدة المستندة إلى بيانات السلطات المحلية في المدينة، وممثلي الصليب الأحمر والهلال الأحمر الدوليين، والمراقبين المحليين الذين توقعوا أن ترتفع أعداد الضحايا إلى عشرين ألفاً.
غير أن وزير الصحة في حكومة شرق ليبيا المكلفة من البرلمان «برئاسة أسامة حماد»، نفى هذه الأرقام قطعياً، وأعلن في مؤتمر صحفي أن أعداد الضحايا أقل من ذلك، وأن أعداد المفقودين من الصعب تحديدها حالياً.
دولة منقسمة واستجابة بطيئة
منذ اللحظة الأولى لوقوع الكارثة كان واضحاً تماماً، أنها أكبر بكثير من قدرة ليبيا على مواجهتها، خاصة في ظروف الانقسام وتشتت الإمكانات- الضعيفة أصلاً- التي تعانيها البلاد، وغياب الخبرات الفنية في مواجهة هذا النوع من الكوارث، والقصور الواضح في القدرات التنظيمية، وخبرة إدارة الأزمات.
وبديهي أن كارثة هائلة كتلك التي ضربت درنة، كانت تتطلب تحركاً فورياً من جميع سلطات الدولة وأجهزتها، بغضّ النظر عن أوضاع الانقسام الموجودة بين الشرق والغرب، لكن الملاحظ أن الجيش الوطني الليبي هو الجهة الوحيدة التي أبدت هذه الاستجابة الفورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح مواطني درنة، بما لديه من قدرات محدودة على مواجهة الكارثة.
أما السياسيون فقد كانت ردود أفعالهم بطيئة بصورة تدعو للدهشة وللأسف، والأسوأ من ذلك، أن رئيس حكومة طرابلس عبدالحميد الدبيبة، أدلى بتصريح غريب ولا علاقة له بالواقع معلناً ان ليبيا تستطيع مواجهة الكارثة من دون حاجة إلى مساعدات خارجية. وما لا يقل سوءاً أن أسامة حماد رئيس حكومة «الشرق»، أدلى هو الآخر بتصريح مشابه. وواضح أن مثل هذه التصريحات هي تصريحات غير مسؤولة، وتسببت بضياع وقت ثمين للغاية، على حساب حياة الضحايا، بينما كان الواجب يقضي بتوجيه استغاثة فورية بطلب للمساعدة من جانب المجتمع الدولي، لإرسال فرق إنقاذ متخصصة، ومزودة بالمعدات الضرورية، فضلاً عن مختلف مواد الإغاثة.
وقد تدارك رئيس مجلس الرئاسة «محمد المنفي»، الموقف بإعلان درنة منطقة منكوبة، وطلب المساعدة العاجلة من المجتمع الدولي، وكانت أبعاد الكارثة بدأت تتضح، وبدأت المساعدات الدولية تتوافد تدريجياً.
دعم عربي
وكان الجيش المصري تحرك بصورة عاجلة بقواته ومعداته ومواد الإغاثة، كما أقامت دولة الإمارات العربية المتحدة، بصورة عاجلة، جسراً جوياً لنقل مواد الإغاثة والأدوية، وغيرها من الضروريات إلى درنة، ثم بدأت المساعدات العربية والدولية تتوالى.
والمؤسف أيضاً أن البرلمان الليبي انتظر حتى يوم الخميس التالي لوقوع الكارثة (فجر الاثنين 11/9) لكي يعقد أولى جلساته لمواجهة الموقف، وكان ينبغي عقد جلسة طارئة للبرلمان مساء اليوم نفسه، أو في اليوم التالي، وأن يظل في حالة انعقاد دائم لمتابعة الموقف واتخاذ القرارات اللازمة بالتعاون مع الحكومة.
الشعب الليبي البطل الحقيقي
الشعب الليبي برهن مجدداً على تماسك لحمته الوطنية من خلال التضامن الواسع مع مواطني درنة، الذي أبداه الليبيون في كل أنحاء البلاد، بغضّ النظر عن المواقف السياسية، والتحرك الفوري لتقديم كل ما يمكن تقديمه للمدينة المنكوبة والمناطق المجاورة لها، فضلاً عن تطوع الأطباء وآلاف الشباب من مختلف التخصصات للمشاركة في جهود الإنقاذ. هذه الهبّة الشعبية الواسعة لنجدة درنة المنكوبة، كانت برهاناً جديداً على أصالة الشعب الليبي، وتماسكه الوطني، ونقطة ضوء بارزة- إلى جانب موقف الجيش الوطني- في عتمة الكارثة.
أسباب الكارثة.. والمتاجرة بها
السياسيون في «الغرب» الليبي أولوا جل اهتماماتهم للتركيز على التحقيق في أسباب الكارثة، مؤكدين أن عدم صيانة سدّي «أبو منصور» و«البلاء» هو سبب وقوع الكارثة، وأن اعتمادات تم تخصيصها لغرض الصيانة قد جرى إنفاقها في وجوه أخرى، بسبب الفساد وسوء الإدارة في المنطقة الشرقية، ولولا ذلك لما وقعت الكارثة، وبناء على ذلك يطالبون بسرعة إجراء التحقيق ومحاسبة المسؤولين واستقالة مجلس النواب ورئيسه.. إلخ.
وهنا تبرز الملاحظات التالية:
1- أن السعة التخزينية لسد المنصور (22.5 مليون م3) وسد البلاء (1.5 مليون م3) بمجموع يبلغ (24 مليون م3)، بينما تشير تقارير إعلامية إلى أن الغزارة الشديدة للسيول المصاحبة لإعصار «دانيال» تسببت في تجمع كميات من الماء بلغت (110 ملايين م3) في الوديان الجبلية الواقعة خلف السدين، إضافة إلى أمطار بلغت (400 مم/ 40 سم) في درنة وحولها خلال 24 ساعة، وهذه أضعاف سعة السدين، ما يعني أن السدّين كان مرجحاً أن ينهارا حتى في حالة إجراء الصيانة.
2– قرار وقف الصيانة جاء من ديوان المحاسبات وليس من السلطات المحلية ولأسباب فنية ومالية، علماً بأن حكومة الدبيبة كان يفترض أن تثير المسألة وقتها بحكم مسؤوليتها عن صيانة السدود (18 سداً) في مختلف أنحاء ليبيا.
3– القضية الرئيسية التي كان ينبغي التركيز عليها منذ وقوع الكارثة هي إنقاذ العالقين وانتشال الجثث، وإيواء المنكوبين ومساعدتهم طبياً، وليس تسجيل النقاط ضد الخصوم السياسية والمتاجرة بالكارثة وضحاياها.
* كاتب مصري
إقرأ المزيد