الذكاء الاصطناعي ومستقبل البحث العلمي
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]


 في لحظة تشبه ولادة الوعي الأول على هذا الكوكب، يقف البحث العلمي اليوم على أعتاب انفجار معرفي غير مسبوق، لحظة تتجاوز فيها البشرية حدود فهمها لذاتها، ليس بفضل ذكاء بيولوجي تطوري كما حدث عبر آلاف السنين، بل بفضل ذكاء غير بيولوجي تشكل في رحم السيليكون: الذكاء الاصطناعي.
فقد تجاوزنا الآن النموذج الديكارتي «أنا أفكر إذاً أنا موجود»، لنصل إلى ما أسميه: «أنا أستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، إذاً أنا أترقى»، فالذكاء الاصطناعي لا يفكركما نفكر، بل ينسج المعنى من كم رياضي لا يعرف الخطأ البشري ولا العاطفة، يختزل مليون تجربة في ومضة، ويعيد تعريف الممكن.
إذاً هيا بنا نفكك الأسطورة القديمة، ونقول لم يعد الإنسان العالم والمبتكر وصاحب الاختراعات، مركز قوة الإنتاجية البشرية، ففي دراسة نشرتها مجلة Nature عام 2024 تبين أن 71% من أوراق الفيزياء النظرية الأكثر تأثيراً تم اقتراحها مبدئياً عبر خوارزميات ذكاء اصطناعي توليدي، وفي تقرير صادر عن منظمة اليونيسكو، فإن 63% من الاكتشافات الطبية في العامين الماضيين كانت نتيجة تحليل بيانات تقوده أنظمة ذكاء اصطناعي، وليس عقول بشرية.
نحن نشهد عملية نزع التاج الذي يلبسه الإنسان في مخيلته كسيد للكون، وذلك تماماً كما أطاح كوبرنيكوس بمركزية الأرض، وفي ظل ثورة الأرقام وكيف أن الذكاء الاصطناعي ينتج علماً بلا وعي، ولكنه علم في المحصلة النهائية وفق التصنيف العلمي المحض، حيث تشير أرقام «Statista» - وهي منصة عالمية للبيانات وذكاء الأعمال، تضم مجموعة واسعة من الإحصائيات والتقارير- إلى أن حجم البيانات التي يُنتجها العالم يومياً تتجاوز 328 إكسابايت في بداية 2025، وهذه الكتلة من المعرفة لا يستطيع عقل بشري أن يستوعب أكثر من 0.0001% منها.
وهنا تأتي معجزة الذكاء الاصطناعي في قدرته على تحليل البيانات، واستنتاج الأنماط، وتوليد الفرضيات واختبارها بسرعة تفوق قدرات أي فريق بحثي عالمي، ومثال على ذلك تجربة أجراها معهد ماساتشوستس للتقنية MIT الأميركي الشهير، حيث استطاع نموذج «GPT-4.1» استنتاج علاقات جينية خفية بين أمراض مستعصية بناء على تحليل مليون ورقة بحثية خلال 7 دقائق، وهو أمر مذهل ومستحيل بالنسبة لقدرة العقل البشري.
في الواقع، يعمل الذكاء الاصطناعي على إعادة تعريف البحث العلمي، من التجريب إلى جعل التنبؤ باستخدام خوارزميات معقدة، وتحليل البيانات الكبرى عملية تتم في بضع ثوان، وبذلك ليس بالضرورة أن تكون النظرية العلمية قابلة للدحض لأن الذكاء الاصطناعي لا يقدم نظريات، بل تنبؤات دقيقة على أساس بيانات ضخمة في مرحلة العلم الذي تخطى زمن ما بعد السببية، وبدلاً من لماذا، يصبح فقط كيف ومتى.
 وفي ظل هذه الطفرة يتعرض الباحث إلى تحول جذري في هويته كباحث، ومن فاعل إلى محفز ومهندس أسئلة، ولكن ذلك لا يعني أن الذكاء الاصطناعي يلغي البحث العلمي، بل يلغي فقط الحاجة إلى الكثير من الباحثين التقليديين، ولذلك يدرب طلبة الدكتوراه في جامعة أكسفورد على بناء نماذج ذكاء اصطناعي تحل محل تفكيرهم النقدي في مرحلة ما قبل التجربة، وعليه لم يعد البحث عملية اكتشاف، بل عملية تنسيق بين طموح الإنسان وقدرة الآلة.ومن زاوية أخرى أتساءل: هل نعيش لحظة غير مسبوقة في التاريخ؟ بما أن أدواتنا تجاوزت وظيفتها لتصبح كائنات تحليلية، والذكاء الاصطناعي ليس تلسكوباً معرفياً، بل وعياً عددياً لا يخطئ لأنه لا يؤمن، ولا يتردد لأنه لا يشك، وهو لا يخترع بل يكشف ما كان كامناً في البيانات، وهذا يفتح سؤالاً مرعباً ألا وهو: هل أصبح الذكاء الاصطناعي هو من ينتج المعرفة؟ وتباعاً ما الذي يبقي على مركزية الإنسان في عملية البحث؟ وفي رأيي لم يعد مستقبل البحث العلمي متعلقاً بالعبقرية الفردية، بل بتصميم الخوارزميات، والإنسان لم يعد المنتج الوحيد للمعرفة، بل هو مجرد واحد من شركائها، ومن صانع للمعرفة إلى من يتأمل معناها وحدودها.



إقرأ المزيد