أيلاف - 11/19/2025 1:18:26 AM - GMT (+4 )
في نوفمبر/تشرين الثاني 1990 غادرت رئيسة الوزراء البريطانية مبنى 10 داونينغ ستريت وهي تبكي، بعدما أطاح بها حزبها إثر إضعافها على يد خصم غير متوقع.
وعندما وقفت، مارغريت تاتشر، عند عتبة المقر الرسمي لرئاسة الوزراء البريطاني للمرة الأخيرة، واجهت أضواء وسائل الإعلام العالمية.
وقالت: "أغادر داونينغ ستريت للمرة الأخيرة بعد أحد عشر عاماً ونصف العام رائعة، وأنا سعيدة بترك المملكة المتحدة في حال أفضل كثيراً مما كانت عليه عندما جئت إلى هنا"، لكنها لم تبدُ سعيدة.
وقبل أقل من أسبوع، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1990، كانت قد استقالت من منصبها كزعيمة لحزب المحافظين الحاكم، بعد فشلها في الحصول على الدعم الكافي في سباق القيادة للاستمرار في السلطة.
ولوحت بيدها مودعة وهي على وشك البكاء، ثم توجهت في رحلة مألوفة إلى قصر باكنغهام للقاء أخير مع الملكة إليزابيث الثانية.
- قصة المرأة الحديدية التي غيرت وجه بريطانيا
- من تاتشر إلى أحمد الشرع: كيف يغيّر السياسيون صورتهم؟ ولماذا؟
وللمفارقة، فإن إدارة تاتشر المتعالية بشكل متزايد لحزبها دفعته إلى الانقلاب ضدها.
وباعتبارها أول رئيسة وزراء لبريطانيا، قادت حزبها إلى الفوز في ثلاثة انتخابات عامة. قليل من السياسيين مارسوا مثل هذه السلطة خلال توليهم مناصبهم أو أثاروا مشاعر قوية بهذا القدر، تأييداً أو معارضة.
وخاضت وانتصرت في معارك لا حصر لها ضد مؤسسات الدولة العميقة والنقابات العمالية وحزب العمال المعارض، الأكثر شراسة تجاه حكومتها.
لكنها خسرت المعركة النهائية مع زملائها في الحزب، في هزيمة شعرت فيها بخيانة عميقة. إنها قصة عن التكبر والمشاعر الجريحة واستعارات مستمدة من الرياضة البريطانية.
وقال أحد وزرائها، كريس باتن، لبي بي سي عام 2005 إن تاتشر أدركت أن "الناس بحاجة إلى أن يخافوا منك قليلاً إذا كنت تريد أن تحصل على ما تريد". وأضاف باتن أنها كانت تمتلك "أسلوباً استثنائياً في تلخيص نتائج الاجتماعات في بدايتها ثم تحدي الحاضرين ليقولوا ما إذا كانوا يعتقدون أنها قد تكون مخطئة". وتابع: "كان هناك دائماً ذلك الإحساس الطفيف بوجود أفعى أناكوندا في الثريا إذا أخطأت في الأمور".
وقالت تاتشر عام 2005 إن نهجها، بصفتها عالمة متدرّبة، كان يبدأ بجمع المعلومات بدقة أولاً ثم إصدار حكمها. وأضافت: "أعتقد أن على رئيس الوزراء في بعض الأحيان أن يكون مخيفاً. لا فائدة كبيرة من أن تكون ضعيفاً ومترهلاً على الكرسي، أليس كذلك؟".
وعندما فازت تاتشر بولاية ثالثة نادرة في الانتخابات العامة عام 1987، كان أحد إجراءاتها الأولى الإعلان عن رسوم مثيرة للجدل عرفت بـ"ضريبة الرأس"، يفرضها المجلس المحلي وتلزم كل مقيم بدفع مبلغ ثابت بصرف النظر عن الدخل. وأدى الإعلان عن هذه الرسوم في مارس/آذار 1990 إلى أعمال شغب في ساحة ترافالغار في لندن، بينما بدا نواب من حزب المحافظين قلقين من أن تؤدي الضريبة إلى خسارتهم مقاعدهم. وللمرة الأولى، طرحت تساؤلات حول قيادة رئيسة الوزراء. لكن علاقة المملكة المتحدة بأوروبا هي التي قادت في النهاية إلى الإطاحة بها.
لم يكن أحد يتوقع أن يلعب السير جيوفري هاو دوراً محورياً في الإطاحة بـ"المرأة الحديدية". كان النائب معروفاً بطبعه الهادئ؛ ففي عام 1978 شبه نائب من حزب العمال هجوماً خطابياً شنه هاو بـ"التعرض لهجوم وحشي من خروف ميت". وأقر هاو لبرنامج "نيوزنايت" عام 2005: "أسلوبي في النقاش يعتمد على التكرار العنيد. لا أحب الصراخ على الناس، فيما صرخ علي إلى حد ما. أعتقد أن ذلك قد يكون مزعجاً إذا كنت شخصاً هادئاً ومتسقاً. هذا لا يرضي الشخص الذي يفضل استفزاز الهادئين".
لكن استخفاف تاتشر بالسير جيوفري سيكون مدمراً. فقد ألقى خطاباً قاسياً بات يشار إليه باعتباره واحداً من أعظم الخطابات في تاريخ البرلمان البريطاني.
وعلى الرغم من أن السير جيوفري كان حليفاً وثيقاً لتاتشر في سنواتها الأولى في السلطة، فإن علاقتهما تدهورت. وعندما أجرت تعديلاً وزارياً في يوليو/تموز 1989، استبدل في منصبه وزيراً للخارجية بجون ميجور، النجم الصاعد في الحزب. وقال زميله في مجلس الوزراء كينيث بيكر لبي بي سي عام 2019: "عندما قامت عملياً بإقالة جيوفري، جعلته نائباً لرئيس الوزراء. إنها ليست وظيفة حقيقية، مثل منصب نائب الرئيس الأمريكي… كان يعلم أنه يهمش".
وفي 30 أكتوبر/تشرين الأول 1990، أطلقت تاتشر واحدة من أشهر عباراتها في البرلمان، مهاجمة نظراءها في أوروبا. ورداً على دعوات من بروكسل لمزيد من السيطرة المركزية، أعلنت بتحد: "لا، لا، لا!" وبعد يومين استقال السير جيوفري. وبقيت تاتشر متصلبة، وألقت في 12 نوفمبر/تشرين الثاني خطاباً عدائياً مميزاً خلال المأدبة السنوية لعمدة المدينة.
وباستخدام سلسلة من استعارات لعبة الكريكيت، قالت: "لا أزال في الملعب، رغم أن الرميات كانت عدائية جداً مؤخراً. وفي حال شكك أحد في ذلك، هل أستطيع أن أؤكد لكم أنني لن أتجنب الكرات المرتدة، ولن أكتفي بالدفاع، ولن أتنازل عن الوقت؟ الكرة ستضرب في كل أرجاء الملعب. هذا هو أسلوبي".
"أواصل القتال، أقاتل من أجل الفوز"وفي اليوم التالي في البرلمان، رد السير جيوفري بإطلاق رصاصة الوداع القاتلة. وباستخدام تشبيه آخر من لعبة الكريكيت لوصف موقف تاتشر من المفاوضات البريطانية في أوروبا، قال: "الأمر يشبه إرسال ضاربي الكرة الأوليين إلى الملعب، ليجدا… أن مضربيهما قد كسرا قبل بداية المباراة على يد قائدة الفريق". ثم تابع: "لقد حان الوقت كي يفكر الآخرون في رد فعلهم تجاه الصراع المأساوي بين الولاءات الذي كنت أعانيه بنفسي، وربما لفترة طويلة جداً". ورأى كثيرون في ذلك دعوةً لخصم قديم لتاتشر كي يخرج من منفاه السياسي ويبدأ تحركه نحو السلطة.
وظهر مايكل هيزلتاين، المعروف شعبياً باسم "طرزان". كان قد استقال قبل أربع سنوات من منصبه وزيراً للدفاع احتجاجاً على تجاهل تاتشر لآرائه. واكتسب لقبه عام 1976 حين أمسك الصولجان داخل مجلس العموم ولوح به فوق رأسه. ومنذ مغادرته منصبه، أمضى وقته يخطط لعودته. ومع انضمام هيزلتاين إلى السباق، بدأت انتخابات قيادة الحزب.
وفي يوم الجولة الأولى من التصويت، فضلت تاتشر السفر إلى باريس للانضمام إلى زعماء العالم في قمة بمناسبة نهاية الحرب الباردة، بدلاً من البقاء في لندن لكسب ود المترددين في الحزب. وعلى الرغم من أنها هزمت هيزلتاين في الجولة الأولى بفارق 204 أصوات مقابل 152، فإن عدداً كافياً من النواب صوت ضدها لمنعها من تحقيق نصر مطلق. ومع انتقال المنافسة إلى الجولة الثانية، كانت سلطة رئيسة الوزراء داخل حزبها تتآكل بسرعة.
ورغم الضغوط التي تعرضت لها لإعادة التفكير في خوض الجولة الثانية، فقد تعهدت لدى عودتها إلى لندن: "سأواصل القتال؛ سأقاتل من أجل الفوز". لكن هل يجرؤ أحد على أن يقول لها مباشرة إنه يجب أن تتنحى؟ وبدلاً من محاولة جمع مؤيديها في مكان واحد، اختارت استدعاء وزرائها واحداً تلو الآخر. وبينما كانوا ينتظرون خارج مكتبها، تبادلوا الأحاديث، واتفق معظمهم على ما ينبغي أن يحدث.
وبعد ثلاث سنوات، استعادت تاتشر تلك الذكرى المؤلمة، وروت لبي بي سي كيف أن وزراءها، واحداً بعد الآخر، أبلغوها الرسالة التالية: "بالطبع، إذا رغبتِ في الترشح، سأدعمك. لكنني لا أعتقد أنك تستطيعين الفوز. ولذلك أرى أنه ينبغي أن تسمحي لآخرين بالترشح، وأن تتنحي". واختارت تاتشر أن ترجئ القرار لليلة لتفكر فيه. وكان معروفاً عنها أنها لا تنام إلا أربع ساعات فقط.
وفي اجتماع مجلس الوزراء في صباح اليوم التالي، أعلنت أنها قررت التنحي، في مشهد كان عاطفياً، وفقاً لكارولين سلوكوك، الموظفة الحكومية الرفيعة التي حضرت الاجتماع. وقالت سلوكوك لبي بي سي عام 2019 إن تاتشر - "امرأة واحدة محاطة بالرجال" - بدأت بقراءة بيان قصير. وأضافت: "بمجرد أن بدأت بقراءته، انهمرت دموعها ثم انفجرت بالبكاء، وكانت تكافح حقاً لإخراج الكلمات"، فيما مسح بعض الوزراء دموعهم أيضاً. وعلق كريس باتن لاحقاً: "أعتقد أننا جميعاً نعرف أن كثيراً من التماسيح تحتفظ بمناديل جاهزة".
وتعهدت تاتشر بدعم جون ميجور، الذي تغلب على منافسيه هيزلتاين ودوغلاس هيرد في الجولة الثانية من التصويت، ليصبح زعيم حزب المحافظين الجديد في 27 نوفمبر/تشرين الثاني. وبعد يوم، ودعت تاتشر داونينغ ستريت للمرة الأخيرة. وبعد لقائها الملكة، انتقلت مع زوجها دينيس إلى منزلهما الجديد في مجمع سكني في دولويتش جنوبي لندن. وأكدت أنها ستعود إلى البرلمان، وإن مع رحلة أطول، لأن العمل كان الشيء الوحيد الذي تعرفه. ورغم تأكيدها للصحفيين أنها ستقدم دعماً كاملاً لميجور، فإنها في السنوات اللاحقة جعلت حياته صعبة بوصفها "سائقة جيدة جداً من المقعد الخلفي".
وبقيت تاتشر طوال ما تبقى من حياتها عاجزة عن التخلص من شعور الخيانة. وقالت لبي بي سي عام 1993: "كانت خيانة بابتسامة. ربما كان ذلك أسوأ ما في الأمر".
إقرأ المزيد


