جريدة الإتحاد - 11/19/2025 1:56:07 AM - GMT (+4 )
أسفرت الانتخابات العراقيَّة عن فشل التَّيار المدنيّ، أو ما قَدم نفسه بالبديل، مما ضمه مِن أحزاب وتكتلات وشخصيات، إلا الفوز للبعض منه فرادى. بالمقابل فازت القوى الإسلاميَّة والعرقيَّة فوزاً كاسحاً، وجدد حامو الطَّائفيَّة، والساخطون على المدنيَّة، عضوياتهم في البرلمان. كان أصحاب «البديل» يراهنون على المعاناة، لتحريك العامة لانتخاب «البديل» عن القوى التي تجذّرت في السُّلطة، وهذا أحد الأحلام الثورية، بينما العامة شكوا للبديل من المعاناة لكنهم صوتوا لغيره، فهي مقسّمة بين الطوائف والعشائر والأحزاب التي تملك المال والسِّلاح، الذي سيستخدم عند الضرورة، ناهيك أنَّ السُّلطة بيدها وهي تعرف كيف تُغري الجمهور. وهنا ننبّه إلى سوء فهم مصطلح «العامة»، كي لا يكون خلطاً بين السَّواد من الناس، على مختلف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، وما ورد في المصطلح الفقهي، حيث العامي مَنْ وجب عليه تقليد المجتهد المستكمل شرائط الاجتهاد (الشَّهرستانيّ، الملل والنَّحل).
ونجد صاحب الكتاب المذكور، يجعل العامي مقابل المجتهد. ويرى نشوان الحميري (573 هج) في تسمية العامة لالتزامهم بالعموم، الذي اجتمع عليه الخصوص (الحُور العين). وقد شاع في العراق مصطلح أبناء العامة إشارة إلى أهل السُنَّة، ولعلَّه اشتباه بما كان يُطلق على الحنابلة ببغداد في العصر العباسي. لا نقصد في كلمتنا مصطلح العامة المحصور في هذا المعنى، إنما أبناء الشعب من غير السلطة وخاصتها، والمفهوم يختلف في السياسات الديمقراطية عنه في السياسات الاستبدادية، فليس هناك حاكم لا يخشى العامة ولا يحسب حسابها، مع اختلاف الدرجات.
تجد الديمقراطي المرائي عرقوباً في التزامه لها، والاستبدادي يحاول اختزالها بشخصه أو بحزبه. قيل: إن عبدالله المأمون (218 هج) عزم على إعلان شتم الأمويين من على المنابر، إلا أنه تراجع خشيةً من العامة، لكن نصحه أهل الكياسة بما هو «أصلح للسياسة» (ابن طيفور، كتاب بغداد). ثم كرر الرغبة من بعده المعتضد بالله (289 هج)، فأخرج كتاب المأمون من الخزانة لنشره في الآفاق، أثناء صلاة الجمعة، لكن قاضياً أثناه عن ذلك بالقول: «يا أمير المؤمنين أني أخاف أن تضطرب العامة، وتكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة» (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). تحاول الحواشي التقرب بحمل العامة على التصفيق، والتمجيد نفاقاً، واستحسان المرذول من الأفعال، والسعي إلى استغفال الناس ومجاراتهم بالرقص في محافلهم، والميل إلى ممارساتهم، إن هبطت أو علت: يلطم الصدر في عاشوراء، أو ينود في الأذكار، وهذا ما يضمن أصواتهم وخضوعهم. كان هذا ديدن أحد وزراء المقتدر بالله (320 هج)، يسعى إلى التقرب من «قلوب الخاصة والعامة، فمنع خدم السلطان، ووجوه القُواد أن يترجموا رقاعهم بالتعبّد، ويتقرب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد على الطرق. فكان إذا رأى جمعاً من الملاحين، أو غيرهم من العامة، يصلون في مسجد على الشط قَدمَ طياره (زورقه)، وصعد وصلى معهم» (مسكويه، تجارب الأمم)، مع أنه أشد الوزراء فساداً، لكن لو دخل الانتخابات تنتخبه العامة، ولا يعنيها فساده. أمثلة لا تحصى على استدراج العامة، ومحاولة تطويعهم.
لكن لم أرَ استغفالاً يقود العامة إلى الهتاف ضد مصالحها، مثلما يخرج الجمهور، ويهتف: «تخفيض الرواتب واجب»! وتخرج النَّساء للمطالبة بتعطيل قانون مثل قانون الأحوال الشخصية المنصف لهن وبناتهنَّ، وكم خرج جمهور العامة متظاهراً ضد انقلاب أو إنجازات وهمية، وتجد أخطر الحشود بتوظيف المقدسات، في معارك أو انتخابات. أقول: لا ضير من خشية العامة، حفظاً للنظام وليكن للسلطة، أو النزول إلى الرعية، في صلاة أو تسهيل أمر، لكن الضير في استغفالهم بصلاتهم، ومعاشهم، ودفعهم للتصويت أو التَّحشد ضد مصالحهم. ولا نعلم بنيّة وزير الأمس، هل كانت مسايَرةً واستغفالاً، أم سجية لا صناعة. ومعلوم أنما الأعمال بالنيات، ولكل وزير (منتخب) ما نوى! لم تدرك قوى البديل أنَّ في الانتخابات استدراجاً للكثرة، بطريقة وزير المقتدر.
*كاتب عراقي
إقرأ المزيد


