جريدة الإتحاد - 11/27/2025 2:06:37 AM - GMT (+4 )
هزاع أبوالريش (أبوظبي)
أصدرت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي، رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، المؤسِّسة، الرئيسة التنفيذية لمجموعة كلمات، سفيرة للنوايا الحسنة لـ «اليونيسكو» في مجال التعليم وثقافة الكتاب، كتابها الجديد «أخبروهم أنها هنا... بحثاً عن ملكة مليحة»، الصادر مؤخراً عن دار «روايات»، إحدى دور مجموعة كلمات، والذي تم توقيعه ضمن فعاليات الدورة الـ 44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب.
ويستند العمل إلى مجموعة واسعة من المراجع والمصادر التي تجمع بين النصوص الأدبية والشعرية العربية القديمة، مثل أشعار المتنبّي وأبي نواس، وغيرهما، إلى جانب مجموعة اقتباسات من الأدب العالمي لنخبة من الكُتّاب الكبار، من أمثال لوركا وكامبل وآخرين، فضلاً عن المراجع والمصادر الآثارية والدينية، كما تستشهد الشيخة بدور بمقولات من الموروث الصوفي، والتي ساهمت في إثراء محتوى الكتاب.
وقالت الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي في حديثها لـ «الاتحاد»: «نعتقد في الكثير من محطّات حياتنا أنّ تجربة وجودنا بدأت منذ وُلِدنا، لكن الحقيقة الأبعد أننا امتداد لأسلافنا، نحمل ذاكرتهم وتاريخهم. وهذا الامتداد يمنحنا ذاكرةً كامنةً، ويحمل إلينا معارف لم نختبرها بأنفسنا، وإنما انتقلت إلينا عبر الزمن، جيلاً بعد جيل، وعبر المكان، والآباء والأجداد، وعبر الآثار القائمة والمرويات المحكية والمدوّنة. لذلك يمكننا القول إن هذا الكتاب هو وثيقة كشفٍ، أتلمّس فيها الخيوط التي ربطتني بجذور أسلافي قبل مئات وآلاف السنين، حيث أذهب بعيداً وعميقاً في الذات لأجمع الحكمة الأولى التي همسوا لي بها، لأُلمع القيم والخصال التي تركوها فيّ، وأكتب عنها لأضعها من جديد في مساحة الواقع والممكن والمعاش، وأفعّل أثرها. فالعالم اليوم أحوج من أيّ وقت مضى إلى الحكمة الأصيلة التي تُسمّي الأشياء بمسميّاتها، وتمسح عنها ما يتبدّل ويتحوّل مع مرور الزمن، فأنا أتحدث عن الأسرة بمعناها الأنبل، والهوية كبوصلةٍ ترشد الإنسان إلى مصيره وغايته، وعن الانتماء والثقافة، وغيرها الكثير من المفاهيم».
وتضيف الشيخة بدور القاسمي: «كلّ ذلك أكتب عنه وأنا في طريقي لتوثيق الممالك النسائية في الجزيرة العربية، خصوصاً في منطقة مليحة، فالطريق إلى ذلك الزمن كان إعادة اكتشافٍ للذات من جديد، واستنهاضاً للمحمول حتى الآن من أولئك الأسلاف، وتلك النساء اللواتي كانت لهنّ بصيرة حادّة إلى الحدّ الذي غيّرن فيه مصير بلدان بأكملها، وسجّلن تاريخاً يليق بحضاراتٍ عريقة في الصحراء الإماراتية».
وتابعت: «تاريخ منطقتنا لا يزال يحمل في طيّاته أماكن كثيرة لم يُكشف عنها، ولا تزال صحراء الجزيرة العربية تحمل في داخلها كنوزاً تستحق الدراسة والبحث، وما قدّمته في كتابي (أخبروهم أنّها هنا... بحثاً عن ملكة مليحة)، يشكّل توثيقاً للممالك النسائية في الجزيرة العربية، استندت فيه إلى دراساتٍ ولُقى وآثارٍ ومكتشفات تم العثور على الكثير منها في منطقة مليحة، وأبرزها نقود (أبيئيل) التي تشير إلى وجود سلالةٍ من الملكات حُفرتْ أسماؤهنّ على النقود المكتشفة في موقع مليحة التاريخي. بقدر ما يشكّل الكتاب مادةً سرديةً تأمليةً وبحثيةً علميةً، بقدر ما يوجّه رسالةً إلى الباحثين في المنطقة والعالم لتوجيه أنظارهم إلى تاريخ منطقتنا، ليس بوصفها استثناءً في تاريخ الحضارات، وإنما لما قدّمته الحضارات التي مرّت على هذه الأرض من قيمٍ ومفاهيم وثقافةٍ نحن اليوم في زمننا الراهن بأمسّ الحاجة إليها. أما فيما يتعلّق بدراستي واختصاصي في الأنثروبولوجيا، فبلا شك كانت أساس مشواري البحثي في هذا الكتاب، فقد اعتمدت مناهج علمية في توثيق ودراسة تاريخ الممالك النسائية، وعدت إلى مصادر ومراجع نخبةٍ من الباحثين والدارسين العرب والأجانب للإلمام بكامل ملامح تلك الحِقب التاريخية».
دلالات العنوان
تشير الشيخة بدور القاسمي إلى دلالات عنوان الكتاب «أخبروهم أنها هنا... بحثاً عن ملكة مليحة» قائلة: «اخترت هذا العنوان ليس لأنه يتحدث فقط عن ملكة مليحة، بل لأنه يعيد الجوهر الأنثوي إلى هذا العالم الذي كانت تُحترم فيه المرأة وتُقدَّر في الماضي، فنحن بحاجة إلى استعادة هذا الجوهر والطاقة الأنثوية من جديد، عبر تذكّر ملكة مليحة، والملكات الأخريات، ونساء هذا العصر اللواتي يجسّدن اليوم روح الملكات. وفي رحلة البحث عن ملكة مليحة، وجدتها في ذاتي، وجدتني مثل اخضرار آخر الفروع في شجرةٍ عتيقةٍ جذورها ضاربةٌ في الأرض، وما هذا الاخضرار إلا التجلي الأخير لرحلة نبتةٍ شقّت طريقها في الأرض بكل ما أوتيت من قوةٍ حتى باتت شاهدةً على المكان وأهله، وباتت وارفةً يستظلّ بحكمتها أبناء المكان وأهله جيلاً بعد جيل. لذلك نحن وكلّ الأسلاف كيانٌ ممتدّ من الحكمة والصبر والعمل والتجلي والتأمّل والترحال، نحمل في ذواتنا بصيرتهم، ولا يصحّ أن نقول إننا نشبههم، لأننا وهم في بُعدٍ زمنيٍّ آخر، يُسمّى الأوّل ماضياً، وما نحن فيه هو الراهن الذي نراه».
دهشة معرفية
حول فكرة الكتاب تقول الشيخة بدور القاسمي: «جاءت فكرة البحث عن ممالك النساء في الجزيرة العربية من دهشةٍ معرفيةٍ قلبت معرفتي عن تاريخ المنطقة. ففي أثناء قراءتي لكتاب «مليحة: التاريخ غير المدون»، توقفتُ عند فقرةٍ تحدثت عن العملات التي عُثر عليها في مليحة، والتي يحمل جانبٌ منها أسماء يُرجّح اليوم أنّها تعود لملكاتٍ حكمنَ المنطقة، لا لملوكٍ كما كان يُعتقد سابقاً، فكانت تلك الإشارة كفيلةً بأن تفتح في داخلي باباً لم يُفتح من قبل. تساءلت بدهشة: كيف لم تُناقَش هذه النظرية؟ وكيف لم يتوقف أحدٌ عند هذا الدليل الواضح؟ كنت مدهوشة من احتمال أن تكون مليحة - في قلب الجزيرة - مملكةً حكمتها النساء. قرأت الفقرة مراراً، وكأنّها حجرٌ ضخمٌ أُلقيَ في بحيرة وعيي، وفي ذروة هذا الحماس حملت الفكرة إلى والدي، المؤرخ الذي أمضى حياته في توثيق تراث هذه الأرض، وسألته: لماذا لم يبحث أحدٌ هذا الأمر؟ لماذا لا يتحدث عنه أحد؟. ابتسم وقال جملةً لن أنساها: «كانوا ينتظرونك». فكانت تلك الكلمات الشرارة التي جمعت كل الخيوط: شغفي بكشف الحكايات، تجوالي بين أطلال مليحة، فضولي الذي لا يهدأ، وأسئلتي التي لا تقبل الصمت».
وتختتم الشيخة بدور القاسمي بقولها: «منذ تلك اللحظة شعرت أن الأمر لم يعد مجرد فكرة، بل دعوة - وربما مسؤولية - لإعادة فتح هذا الملف، وإلقاء الضوء على نساءٍ ربما صَنعنَ جزءاً من تاريخ الجزيرة، لكن التاريخ الرسمي مضى دون أن ينحني إليهن لحظةً واحدةً. ومن هنا بدأت رحلتي: رغبةً في إعادة كتابة السردية، وفي ملاحقة أثر ملكاتٍ ربما ضُيّعنَ بين طبقات الزمن، واستعادة مكانتهن في التاريخ، فربما لم تكن ملكات مليحة بانتظار باحثٍ يكتشفهن، بل بانتظار من يروي قصصهن بإجلالٍ ومحبّة، وهذا بالضبط ما سعيت إليه في هذا الكتاب».
إقرأ المزيد


