القمة الخليجية.. بين الواقع والطموح
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

في خضم ما تعيشه المنطقة من أزمات متشابكة وتحديات متسارعة، يبرز مجلس التعاون لدول الخليج العربية كأحد أهم الكيانات الإقليمية التي حافظت على قدر ملحوظ من التماسك والاستمرارية مقارنةً بغيره من التجارب العربية المشتركة، والتي لم يكتب لها النجاح. ولم يكن المجلس الذي يضم دول المنطقة مجرد إطار تنظيمي، بل تحول مع مرور الزمن إلى ضرورة استراتيجية فرضتها طبيعة التهديدات المشتركة وتشابك المصالح بين هذه الدول. وفي هذا السياق، انعقدت القمة الـ46 للمجلس الأعلى لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في الثالث من ديسمبر الجاري، في قصر الصخير بمملكة البحرين الشقيقة من أجل تعظيم فرص التعاون في مجالات التنمية والأمن والاقتصاد، بما ينسجم مع تطلعات شعوب دول المنطقة نحو مزيد من الاستقرار والازدهار.

ونيابةً عن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، ترأس وفد الإمارات إلى القمة سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس الدولة، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس ديوان الرئاسة، ومن خلال مشاركته، أكدت الإمارات التزامَها الثابت بدعم مسيرة مجلس التعاون وتعزيز العمل الخليجي الموحد، بما يسهم في ترسيخ التعاون والتكامل ويحقق الاستقرار لدول المنطقة.

 

لا شك في أن الانعقاد الدوري للقمة جعلها محطة مفصلية لإعادة تقييم المواقف وتوحيد الرؤى، وتبدو أهميتها في هذه الفترة تحديداً، لأنها تأتي في أعقاب سلسلة من الأزمات والحروب التي هزّت المنطقة، بما يفرض على دول الخليج أن تتحرك بشكل جماعي لإعادة صياغة أولوياتها وتعزيز وحدتها الداخلية، انطلاقاً من عمق الروابط الأخوية التاريخية التي تجمع دول المنطقة وشعوبها. المشهد الراهن تفاصيله كثيرة ومتشابكة، وهي لا تَخفى على أحد، بدايةً من الحرب في غزة التي لم تتوقف عملياً حتى هذه اللحظة وما خلّفته من تداعيات إنسانية وسياسية غير مسبوقة، إلى جانب مواصلة الجيش الإسرائيلي عدوانَه على لبنان وسوريا في وقت واحد، مع تصاعد التوتر إلى درجة انتظار الحرب بين إيران وإسرائيل وما يحمله ذلك من احتمالات تصعيد خطير.

ووفق البيان الختامي الذي جاء تحت عنوان «إعلان الصخير»، أكد القادةُ عزمَهم على مواصلة مسيرة التنسيق والتكامل بين دول المجلس في جميع المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وصولا إلى وحدتها المنشودة، بما يحقق المصالح الأخوية المشتركة، ويسهم في إرساء دعائم الأمن والسلام والازدهار في المنطقة والعالم.

وفي موازاة المشهد السياسي، اكتسبت القمة أهميةً اقتصاديةً استثنائيةً في ضوء الأداء القوي الذي تشهده اقتصادات دول المجلس، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون 588.1 مليار دولار بنهاية الربع الأول من 2025، مسجلاً نمواً بنسبة 3% مقارنة بالفترة ذاتها من 2024، وفق بيانات المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الخليجي، وساهمت الأنشطة غير النفطية بنحو 73.2% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية الربع الأول من 2025، في مؤشر واضح على نجاح استراتيجيات التنويع الاقتصادي التي تنتهجها دول المنطقة.

هذه الأرقام تعكس استمرارَ الاستقرار الاقتصادي ومسار التنمية المستدامة في المنطقة، بعد سنوات من تبني دول المجلس رؤى طموحة وبرامج تنمويةً أعادت تشكيل بنية اقتصاداتها، ووسّعت قاعدة الإنتاج، ورفعت من اعتمادها على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقات الجديدة، واستكمالا للمسيرة أكد القادة أهمية مواصلة مسارات التنويع الاقتصادي وتعزيز الاقتصاد القائم على الابتكار والاستدامة، بما يضمن ازدهاراً طويل الأمد لدول المجلس وشعوبها.

إن «تطلعات الشارع الخليجي كبيرة»، خاصة في الملف الاقتصادي وفي مقدمتها مشاريع الربط الكهربائي وسكك الحديد والدمج الإلكتروني إلى جانب اتفاقيات تجارة حرة تشكل قاعدةً صلبةً لدعم المواطن الخليجي ولتعزيز السوق الخليجية المشتركة. منذ تأسيس مجلس التعاون عام 1981، سعت دوله الست إلى تحقيق شكل من الوحدة والترابط، وقد تحققت إنجازات ملموسة تشكل اليوم أساس الطموح الخليجي المشترك، مع ضرورة الانتباه إلى أن «البيت الخليجي» يواجه بشكل دائم مصاعب حقيقية في التوفيق بين طموحات التكامل الكبيرة التي دفع بها لأكثر من أربعة عقود، وواقعنا الإقليمي. لكن برغم التحديات والعقبات، إلا أن مجلس التعاون الخليجي، أثبت خلال العقود الماضية أنه كيان قادر على التماسك، وأنه البديل الواقعي لمواجهة التحديات التي تعيشها المنطقة، خصوصاً في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى، وعلى ضوء هذه المعطيات، فإن المجلس اليوم أمام فرصة تاريخية لتعزيز دوره كقوة إقليمية مؤثرة، شرط استمرار إرادة التعاون، وترسيخ الثقة بين الدول الأعضاء، وتطوير بنية العمل المشترك بما يتناسب مع حجم التحديات القادمة.



إقرأ المزيد