معاناة بريطانيا مع «بريكست»..هل هي مستقبل أميركا؟
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

إذا طلبت من الأميركيين أن يغمضوا أعينهم ويتخيلوا المستقبل، فمن غير المرجح أن يروا بريطانيا. فهذه هي أرض الأمس: القلاع، والجعة الدافئة، وملك حقيقي يحكم البلاد. لكن ورقة بحثية جديدة تجادل بأن ما يحدث على الجانب الآخر من الأطلسي - وتحديداً معاناة بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي (البريكست) - يقدم لمحة عما قد يحمله الغد للولايات المتحدة. كان قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016 بمثابة كارثة اقتصادية.

وتشير تقديرات الدراسة، التي نشرها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الشهر الماضي، إلى أن الناتج الاقتصادي السنوي لبريطانيا أقل بنسبة تتراوح بين 6% و8% مما كان سيكون عليه لو اختار الناخبون البريطانيون البقاء في الاتحاد الأوروبي.

ويمثل هذا خسارة في الناتج أكبر مما شهدته بريطانيا في أسوأ حالاتها خلال الركود الذي أعقب الأزمة المالية عام 2008. كما أنه أشد وطأة مما كان سيلحق بها لو اختفى كل بنك وشركة وساطة وصندوق تحوط في لندن فجأة. يصف مؤلفو الدراسة - وهم خمسة اقتصاديين أميركيين وأوروبيين - نتائجهم بأنها تحذير للولايات المتحدة. فليس هناك الكثير من أمثلة الدول المتقدمة، التي انسحبت من الأسواق العالمية. لذا فإن التجربة البريطانية تقدم واحدة من نقاط المقارنة القليلة لسياسات الرئيس دونالد ترامب التجارية المقيّدة.

وتخلص الدراسة إلى أنه «في حالة البريكست، كان للأمر تأثير اقتصادي كبير على المملكة المتحدة». القصة الخلفية باتت مألوفة الآن. خلال النصف الثاني من القرن العشرين، قادت الولايات المتحدة جهداً عالمياً لتقليص الحواجز التجارية. وبأي تقدير منطقي، فاقت الفوائد التكاليف. لكن النخب السياسية لم تبذل جهداً يُذكر لتقليص تلك التكاليف، ونحن نعيش اليوم تداعيات ذلك الإهمال. وتصف الدراسة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأنه مثال على «إصلاح تجاري عكسي». وقد قال ترامب، خلال حملته الرئاسية الأولى، إنه نموذج أولي.

ففي أغسطس 2016، بعد شهرين من تصويت بريطانيا المفاجئ لمغادرة الاتحاد الأوروبي، كتب ترامب على تويتر: «سيُطلقون عليّ قريباً لقب السيد بريكست!». كان الرئيس وأنصار «البريكست» يشتركون في الخوف من الغرباء. فقد بنى ترامب مسيرته السياسية على الادعاء بأن بقية العالم تستغل الولايات المتحدة. فالتجارة، من وجهة نظره، هي دول أخرى تسرق أموالنا. والهجرة هي «وافدون يسرقون وظائفنا». أما المعاهدات الدولية فهي قيود تكبّل السيادة الأميركية. وحتى الآن، ومع استحالة تجاهل الجوانب السلبية للبريكست، ظل ترامب من أشد المعجبين به. وعندما سُئل هذا الصيف عمّا إذا كانت بريطانيا قد أحسنت استغلال خروجها من الاتحاد الأوروبي، قال إن التنفيذ كان «متراخياً بعض الشيء، لكنني أعتقد أنه بدأ يستقيم».

لتقييم عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تستند الدراسة الجديدة إلى مسح دوري للشركات، بما في ذلك آلاف الشركات التي توظف حوالي 10% من عمال القطاع الخاص البريطاني. النتيجة الأكثر إثارة للاهتمام - والأكثر أهمية للولايات المتحدة - هي أن حالة عدم اليقين تسببت في أضرار أكبر من التغييرات في قواعد التجارة. يمكن للشركات التكيف مع مجموعة جديدة من العوائق، ما أزعج الشركات حقاً خلال العقد الذي انقضى منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هو الارتباك بشأن ما يُفترض أن تتكيف معه.

كما أثارت سياسة ترامب التجارية المتقلبة حالة من الارتباك. فبحسب أحد المقاييس، أدت الجولة الأولى الكبيرة من إعلانات التعريفات الجمركية في أبريل إلى ارتفاع حالة عدم اليقين بشأن السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة إلى أعلى متوسط ​​شهري لها منذ أربعة عقود على الأقل، متجاوزةً حتى الذروة التي بلغتها خلال جائحة كوفيد-19. وبعد ثمانية أشهر، لا يزال مؤشر عدم اليقين الاقتصادي هذا عند مستوى أعلى من أي وقت مضى بين عامي 1986 و2019 - وهي فترة شملت انهيار شركات الإنترنت، وتداعيات 11 سبتمبر، والأزمة المالية العالمية. كانت الشركات الصغيرة الأكثر تضرراً. فهي تجد صعوبة أكبر في التكيف.

وتفتقر إلى النفوذ السياسي للحصول على إعفاءات خاصة، وحتى الإجراءات الورقية للتنظيمات الجديدة تُثقل كاهلها. قالت «شانون براينت»، رئيسة شركة «تريد آي كيو» Trade-IQ في ولاية ويسكونسن، لصحيفة لوس أنجلوس تايمز مؤخراً إن الشركات الصغيرة تواجه «موتاً بألف جرح ورقي». ومن الأمثلة على ذلك: شرط جديد يلزم المستوردين بتوثيق مصادر المحتوى المعدني في منتجاتهم. والاستنتاج الثاني من الدراسة التي تم إعدادها بشأن بريكست هو أن الضرر يتراكم تدريجياً.

فالتوقعات بأن رسوم ترامب الجمركية ستضرب الاقتصاد الأميركي، مثل الإعصار لم تتحقق، لكن ذلك لم يكن الخطر الحقيقي.

لقد ألحق البريكست ضرراً بطيئاً وصامتاً، إذ استثمرت الشركات قليلاً أقل، وعيّنت قليلاً أقل، وابتكرت قليلاً أقل. وهي التأثيرات التراكمية التي كانت عميقة. هناك اختلافات بين الوضع الاقتصادي لبريطانيا في عام 2016 والولايات المتحدة اليوم. كان اقتصاد بريطانيا يعاني من الركود حتى قبل البريكست، بينما يشهد الاقتصاد الأميركي طفرة في الذكاء الاصطناعي. كما أن الاقتصاد البريطاني يعتمد على التجارة أكثر من ضعف اعتماد الاقتصاد الأميركي، مما يجعله أكثر عرضة للتأثر. وهناك فارق آخر، قد يكون الأهم. كان «البريكست» طريقاً باتجاه واحد.

لا يمكن لبريطانيا ببساطة التصويت للانضمام مجدداً إلى الاتحاد الأوروبي، فالحملة الرامية إلى تأكيد السيادة البريطانية جعلت الأمة، وللمفارقة، أكثر اعتماداً على حسن نية جيرانها الأوروبيين. في المقابل، يحتفظ الناخبون الأميركيون بسلطة كبح جماح مشروع ترامب السياسي من خلال تنصيب أغلبية «ديمقراطية» في الكونجرس العام المقبل، وعكس مساره من خلال انتخاب رئيس جديد في عام 2028.

بنيامين آبلباوم*

*صحفي أميركي متخصص في مجال الاقتصاد.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»



إقرأ المزيد