الأجناس البشرية.. تصنيفات وتداخلات
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

يعد موضوع السلالات أو الأجناس البشرية من أكثر الموضوعات تعقيداً في الدراسات الاجتماعية والإثنولوجية، إذ يتطلب البحثَ في نشأة هذه السلالات، وفي توزيع الأجناس البشرية الحالية عبر مناطق العالم، ثم الربط بين توزع السلالات جغرافياً وبين البيئات الطبيعية التي استقرت فيها، وما نتج عن ذلك من خصائص جسمانية تميز كل جنس عن غيره من الأجناس الأخرى. وكتاب «الأجناس البشرية» الذي نعرضه هنا يعالج تلك الجوانب الثلاثة معاً، إذ يدرس نشأة السلالات، ويشرح الأسس التي اصطلح عليها الباحثون في تقسيم العالم إلى أجناس بشرية، قبل أن يدرس توزع السلالات في العالم، حيث يتضح أن السلالات لم تعد ملتزمة ببيئاتها الطبيعية الأولى، بل حدث تداخل وتمازج بين كثير منها حول العالم. وفيما يتعلق بنشأة النوع البشري، يفند الكتاب الأطروحة القائلة بأن الإنسان متعدد النشأة والأصل، أي ينحدر من آباء مختلفين، مثل الزنوج السود، والشماليين البيض، والمغول الصفر.. إلخ، موضحاً كيف أثبت البحث العلمي أن جميع السلالات ترجع إلى أصل واحد، أي أن الإنسان وحيد النشأة، إذ نشأ من أب واحد في مكان واحد، وهو ما أكدته الأبحاث الأركيولوجية التي دلت في الوقت نفسه على أن الاختلافات الجسمانية بين بني البشر موجودة منذ القدم.

ويرجح مؤلفو الكتاب أن الإنسان نشأ في بقعة ما من النطاق الصحراوي الكبير الذي يمتد من الصحراء الكبرى إلى صحراء شبه الجزيرة العربية، ثم تطور في مدارج الرقي جسمانياً ونفسياً، وسار تدرجه الجسماني جنباً إلى جنب مع تدرجه العقلي وتطوره الحضاري. لكن إذا كان الإنسان وحيدَ النشأة، فكيف انقسم إلى أجناس عديدة؟

يعتقد العلماء أنه انطلاقاً من العصر الحجري القديم بدأ النوع البشري ينقسم إلى أجناس فيها الأبيض والأصفر والأسود.. فيها أصحاب الرؤوس الطويلة والقصيرة، وأصحاب الرؤوس العريضة.. فيها الأقزام، وفيها طوال القامة.. إلخ. وعلى ضوء ذلك، يرى مؤلفو الكتاب أن الإنسان بمجرد أن وجد أن أفرادَه تكاثروا في مكان النشأة، بدأ يفكر في المغادرة نحو بيئات جغرافية مختلفة ستكسبه صفات جسمانية جديدة لم تكن له من قبل. وبهذا نكون أمام ثلاث مراحل في تكوين الجنس البشري: مرحلة الهجرة من الموطن الأصلي، ومرحلة الانتشار في بيئات طبيعية مختلفة واكتساب صفات تلائمها، وأخيراً مرحلة انتقال الصفات إلى النسل بالوراثة لتتكون السلالات والأجناس البشرية حول العالم. ومعنى ذلك أن الأجناس البشرية تتجسد في صفات جسمانية تتعلق بالشكل الخارجي للإنسان، وقد تم اكتسابها من البيئة الطبيعية على مدى حقب طويلة، وأصبحت صفات مميزة لمجموعات من البشر، تتوارثها أجيالها على مر الزمن.

ومن هذه الصفات لون البشرة الذي يرتبط بتوزع المناطق الحرارية في العالم، حيث يوجد اللون الأسود في الأقاليم الاستوائية وما حولها، ثم يتدرج إلى اللون الأسمر في المناطق المعتدلة، وصولاً إلى اللون الأبيض في الإقليم البارد. كما يمثل طول القامة وقصرها صفة أخرى مميزة، حيث اكتسبت جماعة هذا الطول أو القصر في القامة فأصبح صفة ثابتة تنتقل بالوراثة ولا تتغير مهما غير الإنسان بيئته بعد ذلك. وبالنظر إلى توزع طول القامة في وقتنا الحالي نجد أن أطول الناس قامة هم سكان شمال أوروبا وزنوج أعالي النيل، وأن أقصر الناس قامة هم الأقزام في الغابات الاستوائية والإسكيمو في الأصقاع الشمالية.

ووفقاً للكتاب فإن طول القامة وقصرها يرتبطان بعاملين طبيعيين: أولهما حالة البيئة الطبيعية نفسها، وما إذا كانت مكشوفة أم غير مكشوفة، أي هل يعيش إنسانها في الهواء الطلق ويمارس حياتَه وبحثَه عن موارد رزقه في الخلاء، أم أنه يقضي معظم وقته في مكان غير مكشوف، وبالتالي فهو يعيش حياته في وضع منكمش؟

ومن البيئات المكشوفة مناطق السافانا والاستبس أو مناطق الحشائش بصفة عامة، أما المناطق غير المكشوفة فمنها الغابات الاستوائية الكثيفة والمناطق الجليدية. أما العامل الثاني الذي يتحكم في تحديد القامة فهو المادة الغذائية، وما إذا كانت وفيرة فتساعد على اطراد النمو أم شحيحة فتتسبب في ضعف النمو وتالياً قصر القامة. وهكذا اكتسبت المجموعات البشرية صفات مختلفة من البيئات الطبيعية المختلفة، حتى أصبحت كل مجموعة جنساً قائماً بذاته، وأصبح سكان العالم يختلفون بعضهم عن بعض من عدة وجوه؛ فهناك في أحد طرفي المجموعة البشرية الرجل الأوروبي ببشرته البيضاء وعينيه الزرقاوين أو البنيتين وشعره الناعم المموج، وفي النهاية الأخرى الرجل الزنجي الأفريقي ذو البشرة الداكنة والأنف الأفطس والشعر المجعد، وفيما بينهما المغولي الآسيوي المائل لونه إلى الاصفرار، وشعره إلى الخشونة، وعظمتا خديه إلى البروز.

وكما يلاحظ الكتاب فإن التقسيم الثلاثي المألوف إلى قوقازي ومغولي وزنجي هو أبسط تقسيم للأجناس البشرية الرئيسية، لكن توجد تحت كل من هذه المجموعات الكبرى أقسام وفروع متعددة، مما يدل على عظم الاختلاط الذي جرى بين هذه المجموعات وفروعها، بحيث لم يعد هناك وجود للجنس النقي بمعناه العلمي الصحيح. ويفرد الكتاب فصلاً خاصاً لكل قارة، مبيناً كيف تطورت خصائص أجناسها البشرية، مبتدئاً بآسيا، وهي القارة الضخمة التي كانت مهدَ الإنسان الأول حيث بزغت أقدم الحضارات، وخرجت الهجرات إلى القارات المتاخمة.

وقد أدى اتساع الرقعة الجغرافية لآسيا، ووجود مظاهر تضاريسية واضحة فيها، إلى وجود بعض الخطوط الفاصلة بين أجزائها الكثيرة، والتي أصبحت بحكم الظروف الجغرافية بمثابة مناطق تخص الأجناس التي استقرت فيها. فهناك الكتلة المغولية التي يكاد ينتظم أمرها خلف الحاجز الجبلي العظيم الذي تمثله هضبة التبت. وهناك الكتلة الهندية التي لعبت الهملايا وتوابعها دوراً هاماً في الفصل بينها وبين باقي القارة الآسيوية. وهذا إلى جانب أواسط آسيا وسهولها الغربية الفسيحة المترامية التي جعلت منها محيطاً واسعاً تختلط فيه الأجناس وتنتقل الجماعات.

أما القارة الأقيانوسية، التي تضم عدداً كبيراً من الجزر في الجزء الجنوبي الغربي من المحيط الهادئ والجزء الشرقي من المحيط الهندي، فإن الأجناس البشرية التي استوطنتها منذ أزمنة بعيدة جاءتها قادمةً من جنوب آسيا عن طريق المعابر الأرضية التي كانت تمتد عبر جزر إندونيسيا. وأغلب هذه الأجناس من العناصر الزنجية التي تمتاز بشعرها الصوفي وبشرتها الداكنة وقامتها القصيرة. وفيما يخص قارة أوروبا فهي بمثابة شبه جزيرة كبيرة من أشباه الجزر الآسيوية، تتصل بها وتمتد منها كذراع نحو الغرب. وبفضل هذا الاتصال المباشر كانت الهجرات البشرية تنتقل من آسيا إلى أوروبا منذ أقدم العصور. وقد توالى وصول الهجرات من الأم الكبرى آسيا، وكذلك من أفريقيا، فلعبت دوراً مهماً في تعمير أوروبا، وأدى ذلك إلى تعقيد توزيع الأجناس فيها.

وشاركت في تعمير القارة ثلاثةُ أجناس رئيسية هي: جنس البحر المتوسط، والجنس الألبي، والجنس النوردي (أو الشمالي). كما وُجدت أجناس أخرى مثل الجنسين المغولي والتركي في بعض الجهات الشرقية والشمالية الشرقية من القارة. أما الأميركيتان فتتألف شعوبهما الأصلية من مجموعتين رئيسيتين قدمتا من شمال شرق آسيا في حقب زمنية سحيقة، هما الإسكيمو والهنود الحمر. وكما يذكر الكتاب فإن الإسكيمو أقدم الأجناس التي وصلت أميركا الشمالية، وقد ظلوا وحدهم يقطنونها على مدى ألفي عام، حيث أظهرت البحوث الأثرية أن حضارة الإسكيمو كانت أكثر ازدهاراً. أما الهنود الحمر فكانوا ينتشرون على مساحات واسعة من الأميركيتين ويشغلون أقطاراً متباينة في ظروفها الجغرافية، ولهذا تباينت قبائلهم في الشكل والعادات، وإن اشتركوا جميعاً في البشرة السمراء النحاسية، علاوة على طول القامة وسواد الشعر وطوله. وعرفت القارة الأفريقية بدورها أنواعاً ضخمة من الهجرات في عصور ما قبل وفي العصور التاريخية.

وكانت حركة الهجرات عبر القارة بطيئة مما أعطاها فرصة أقوى للتأثير في السكان. وكما يذكر الكتاب فإن أقدم العناصر البشرية في أفريقيا هي البوشمن والأقزام، إذ يعود وجود المجموعتين إلى عشرات آلاف السنين. ثم جاء الزنوج من القرن الأفريقي، وتشعبت طرقهم في اتجاهين رئيسيين؛ أحدهما نحو الغرب إلى السودان الغربي، والآخر نحو الجنوب إلى هضبة أفريقيا الشرقية، بينما وقفت هضبة الحبشة حائلاً دون انتشار العناصر الزنجية إلى الشمال. ثم جاء بعد ذلك دور العنصر القوقازي الذي وفد إلى القارة عبر نفس الطرق واحتك بالسكان الزنوج، ثم واصل هجراته باتجاه ساحل البحر الأحمر، فحوض النيل، ثم إلى شمال أفريقيا. وهكذا يمكن تقسيم القارة الأفريقية إلى قسمين رئيسيين على أساس مدى تمثل الصفات الزنجية في سكانها، حيث تمثل الحافة الجنوبية للنطاق الصحراوي حداً شمالياً لأفريقيا الزنجية يفصلها عن أفريقيا القوقازية. وإن أمكن الخروج باستنتاجات من هذا الكتاب الثري فمنها أن تصنيف الأجناس البشرية على أساس اختلاف صفاتها الجسمية والمورفولوجية، وليس الثقافية، هو التصنيف العلمي الذي قامت عليه الدراسات الإثنولوجية الحديثة. ومنها أيضاً أنه لا تكاد توجد اليوم أجناس نقية أو سلالات صافية، وذلك لأن اختلاط العناصر البشرية ببعضها البعض مستمر منذ القدم ودون توقف، وبخاصة في مناطق التخوم وعلى حدود التداخل السكاني بين هذه العناصر.

محمد المنى

الكتاب: الأجناس البشرية المؤلفون: جماعة

الناشر: مرايا للطباعة والنشر والتوزيع.

تاريخ النشر: 2025
 



إقرأ المزيد