جريدة الإتحاد - 12/28/2025 11:14:35 PM - GMT (+4 )
اعتبر المفكر السياسي الفرنسي بيار هاسكي أن خط التصادم المستقبلي في الحقل السياسي الغربي سيتمحور حول التناقض بين النزعة الكونية (الليبرالية) والنزعة الحضارية (المجموعاتية)، بين العولمة عابرة الحدود والكيانات القومية المحلية.
ليس من همّنا الوقوف هنا عند المسألة الليبرالية التي كنا قد تناولناها سابقاً، وإنما سنستعرض بعض التوجهات الأيديولوجية البارزة في المسألة الحضارية التي تشغل اليوم بعض الاتجاهات الصاعدة من اليمين الشعبوي والحركات المحافظة في البلدان الغربية والعديد من دول العالم. وفي هذا الباب، يمكن التمييز بين أربعة تيارات متمايزة هي: الحداثة البديلة، وما بعد الليبرالية، والنزعة القومية المحافظة، والديمقراطية غير الليبرالية. التيار الأول ارتبط بالمفكر الصيني تشانغ ويوي الذي عُرف بكتابه «الموجة الصينية.. انبثاق دولة حضارية»، وفيه يطرح فكرةَ الحداثة البديلة عن التجربة الغربية، من منظور الخصائص الحضارية الخاصة بالنموذج الصيني في تميّزه التاريخي والاجتماعي. وفي هذا السياق، يتحدث ويوي حول «الحداثة عن طريق التكيف»، بدلاً من الحداثة القطائعية التي هي خاصة بالغرب الليبرالي في مكوناته المعروفة: الليبرالية والديمقراطية الانتخابية والفردية.
«حداثة التكيف» التي اعتمدتها الصينُ، تقوم على مقومات ثقافية خاصة وعميقة من قبيل: الدولة المركزية القوية، والحكامة الاستحقاقية والبرغماتية المتدرجة والدولة الحضارية المختلفة عن الدولة القومية. ومع أن ويوي لا يتحدث هنا إلا عن النموذج الصيني، إلا أن مفهوم الحداثة الحضارية غدا له تأثير واسع في بلدان وأمم أخرى، مثل الهند واليابان وأميركا اللاتينية. أما نزعة ما بعد الليبرالية، فارتبطت بالفيلسوف الأميركي باتريك دنين الذي نشر كتاباً هاماً بعنوان «لماذا فشلت الليبرالية؟»، يبيِّن فيه أن التجربة الليبرالية أدت إلى تفتيت المنظومة الاجتماعية وتكريس الفردية الراديكالية وتشكيل دولة تكنوقراطية من دون عمق أخلاقي أو رمزي، فضاع كلياً مفهوم الخير المشترك (في دلالاته اللاهوتية الأخلاقية) وانتكس معيار الفضيلة المدنية، الذي هو مرتكز النظرية السياسية الكلاسيكية. ومن هنا يدعو دنين إلى قيام ديمقراطية جوهرية تستبطن القيم المجموعاتية والثقافية العامة التي قوّضتها الديناميكية الليبرالية. أما النزعة القومية المحافظة، فارتبطت بالفيلسوف الإسرائيلي الأميركي يورام حازوني الذي أصدر كتاباً بعنوان «فضائل القومية»، يتبنّى فيه بقوة مفهومَ الدولة القومية والسيادة الشعبية في مقابل حركية العولمة الاقتصادية والاستراتيجية. فبالنسبة له، الدولة القومية هي الشكل السياسي الوحيد الملائم للحرية والتعددية، وهي نتاج الحداثة الغربية في خصوصياتها الحضارية المميزة. والقومية، كما يعرّفها حازوني، هي «الحق الجماعي لشعب حُر في حكم نفسه»، ومن ثم يجب أن تكون محور الرؤية السياسية والاستراتيجية للدولة.
وقد أثّرت أفكار حازوني بقوة على التيار اليميني في إسرائيل وعلى النزعة الشعبوية في الولايات المتحدة الأميركية. أما تيار الديمقراطية غير الليبرالية، فارتبط بالفيلسوف المجري اندرياش لنزسكي الذي هو العقل السياسي لرئيس حكومة بلاده فيكتور أوربان، وقد عُرف بنقده الراديكالي للتقليد الليبرالي من منطلق فكر كارل شميت، الفيلسوف والقانوني الألماني الشهير.
وبالنسبة للنزسكي، تكمن السياسة الحقيقة في الصراع والقرار الأمري والسلطوية الفاعلة، وهي أبعاد ألغتها الممارسة الليبرالية القائمة على مفاهيم الحرية الفردية ودولة القانون ومنظومة حقوق الإنسان الصورية. لا يرفض لنزنسكي الآلية الانتخابية الديمقراطية، لكنه يريد تخليصها من الرؤية الليبرالية، معتبراً أنها تتناقض في الجوهر مع منطق السيادة الشعبية الحرة وغير المقيدة. ولا يمكن الخلط بين هذه التيارات الأربعة التي تنتمي إلى تقاليد فكرية وأيديولوجية متمايزة، لكنها تلتقي في عناصر ثلاثة محورية هي: رفض الليبرالية في تصوراتها الفردية الإجرائية للنظام السياسي والحركية الاجتماعية، واعتبار الخصوصيات الحضارية والثقافية في منطق الفعل السياسي، والتشبث بالهويات الخصوصية في الدوائر القومية والمحلية.
ما يجري راهناً ليس صراعاً حول الحداثة ذاتها، والتي أصبحت إطاراً كونياً إنسانياً لا محيد عنه، ولا حول الديمقراطية التي لا خلاف حول كونها الأسلوب الأمثل لضبط التعددية السياسية (حتى في الصين التي تعلن أن لها منظورها الخاص للديمقراطية)، وإنما هو صدام حول التركة الليبرالية من منطلق أفكار الهوية والخصوصية الحضارية والانتماء القومي.
ومِن المرجّح أن يتعمق هذا الصراع ويتزايد في المدى المنظور في كل الديمقراطيات الكبرى، وسيكون له أثره الحتمي على طبيعة الموقف النظري والعملي من مسارات الحداثة والديمقراطية والليبرالية، وهي مسارات تشابكت وتزامنت تاريخياً، وإنْ كانت اليوم في طور التمايز والتصادم.
*أكاديمي موريتاني
إقرأ المزيد


