جريدة الإتحاد - 12/31/2025 10:45:00 PM - GMT (+4 )
لا يمكن قراءة ما جرى في حضرموت والمكلا باعتباره حدثاً أمنياً معزولاً، أو حلقة عابرة في صراع طويل، بل يجب النظر إليه بوصفه لحظة كاشفة لطبيعة الأزمة اليمنية برمّتها، وللفارق الجوهري بين من يفهم الدولة كمسؤولية، ومن يتعامل معها كغطاء سياسي أو مورد نفوذ. فاليمن، منذ عام 2015، لم يكن ساحة حرب فقط، بل كان ساحة اختبار حقيقي لمشاريع متعددة: مشروع الميليشيا، مشروع الشرعية الشكلية، ومشروع الدولة الممكنة.
دخلت الإمارات الحرب ضمن التحالف العربي انطلاقاً من منطق واضح: مواجهة خطر حقيقي يهدد أمن المنطقة، ومنع سقوط اليمن كاملاً بيد «الحوثي» والتنظيمات الإرهابية. لم تدخل بحثاً عن نفوذ سياسي، ولا سعياً لشرعية بديلة، بل دخلت بمهمة محددة: كسر تمدد الحوثي، تجفيف منابع الإرهاب، وخلق حدٍ أدنى من الاستقرار يسمح لليمنيين بإعادة بناء دولتهم. هذا الفهم هو ما حكم سلوك الإمارات منذ اليوم الأول، وهو ما يفسر طبيعة قراراتها اليوم.
على الأرض، لم يكن الأداء متشابهاً بين أطراف الصراع. فحيث وُجدت قوات منظمة، مدرَّبة، ذات عقيدة واضحة، تحققت نتائج ملموسة: تحرير مدن، طرد تنظيمات إرهابية، استعادة موانئ، وتأمين خطوط ملاحة. وحيث غابت الرؤية، وتقدمت الحسابات الضيقة، تآكلت الجبهات، وسقطت المعسكرات بلا قتال، وتحوّلت «الشرعية» إلى عنوان سياسي بلا مضمون سيادي أو عسكري.
حضرموت والمكلا كشفتا هذه الحقيقة بلا مواربة. لم يكن الانهيار مفاجئاً، بل نتيجة طبيعية لتراكم طويل من إدارة هشة، وبُنى عسكرية غير متماسكة، وقيادات اعتادت الاعتماد على الغطاء الخارجي أكثر من اعتمادها على القبول المحلي أو الجاهزية القتالية. حين جاءت لحظة الاختبار، انكشفت الفجوة بين الشكل والجوهر، وبين الدولة كفكرة، والسلطة كامتياز.
في المقابل، برز الجنوب بوصفه مساحة مختلفة في التجربة اليمنية. ليس لأنه مثالي أو خالٍ من التعقيدات، بل لأنه خاض المواجهة مباشرة، ودفع كُلفة الدفاع عن أرضه، وراكم تجربة سياسية وعسكرية خلال سنوات الحرب. المطالبة بمستقبل سياسي مختلف في الجنوب ليست نزوة طارئة، بل انعكاس لفشل النموذج السابق في إدارة الوحدة، ولعجز المركز عن حماية الأطراف أو تمثيلها بعدالة. تجاهل هذه الحقيقة لم يعُد خياراً واقعياً.
هنا تحديداً يبرز الفارق في المقاربة الإماراتية. فالإمارات لم تتعامل مع الجنوب بوصفه ورقة ضغط، ولا مع حضرموت بوصفها ساحة صراع بالوكالة. تعاملت مع الوقائع كما هي، لا كما يُراد لها أن تكون. دعمت الاستقرار حيث وُجدت قوة قادرة على حمايته، وامتنعت عن الانخراط في صراعات عبثية لا أفق لها. وحين أصبح الوجود العسكري عبئاً سياسياً لا يخدم الهدف الاستراتيجي، اختارت الخروج المنظم، لا التورط المفتوح.
الانسحاب، في هذا السياق، ليس تراجعاً ولا هروباً، بل قرار سيادي محسوب. الدولة القوية لا تُقاس بقدرتها على البقاء في كل معركة، بل بقدرتها على التمييز بين المعركة الضرورية والمعركة المستنزِفة. القوة الحقيقية هي أن تعرف متى تستخدم السلاح، ومتى تحمي السياسة من السلاح، ومتى تقول إن المهمة انتهت.
ما بعد حضرموت والمكلا لن يشبه ما قبلهما. اليمن يقف اليوم أمام سؤال جوهري: هل يريد دولة حقيقية تقوم على التمثيل والمسؤولية والكفاءة، أم استمرار كيانات تستهلك الدعم وتعيد إنتاج الفشل؟ العالم بدأ يميّز بين من حاول بناء استقرار حقيقي، ومن اكتفى بإدارة الأزمة. والتاريخ، مهما طال الزمن، لا يحفظ الضجيج الإعلامي، بل يسجل من تحمّل المسؤولية، ومن امتلك شجاعة القرار.
*لواء ركن طيار متقاعد.
إقرأ المزيد


