جريدة الإتحاد - 11/22/2025 11:29:23 PM - GMT (+4 )
في الأسبوع الماضي كنتُ في مسقط رأسي، مدينة يوتيكا في ولاية نيويورك. كنت قد دُعيت لإلقاء الكلمة الرئيسية في فعالية أُقيمت في مبنى البلدية احتفالاً بعيد استقلال لبنان. وكان ذلك اليوم مناسبة للاعتراف والاحتفاء بإسهامات الأميركيين اللبنانيين في الولايات المتحدة، ولتذكيرنا كيف ساهمت أميركا، بكرمها وضيافتها، في دعم موجات المهاجرين المتنوعة، وكيف ساهموا بدورهم في بناء هذا البلد. من أواخر القرن التاسع عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفّقت موجاتٌ من المهاجرين إلى الولايات المتحدة من بلاد الشام. وتشير البيانات المتاحة إلى أن ما يقرب من ربع مليون مهاجر سوري-لبناني وصلوا خلال تلك العقود الأربعة. تباينت أسباب هجرتهم. ففي الفترة الأولى، قدموا بحثاً عن فرص اقتصادية.
وقد سرّعت المجاعة في جبل لبنان التي فرضتها أجواء الحرب العالمية الأولى والصراع بين الإمبراطورية العثمانية والحلفاء من هجرتهم. وتشير التقديرات إلى أن نصف سكان جبل لبنان قد قضوا جوعاً أو مرضاً خلال سنوات الحرب.
وبعد الحرب، غادر الكثير ممن تمكّنوا من ذلك، وكانت وجهتهم المفضلة الولايات المتحدة للّحاق بأقارب أو أصدقاء سبقوهم إليها. واستمرّ هذا الوضع حتى عشرينيات القرن الماضي حين أدّى رد الفعل المعادي للأجانب إلى أن يحدّ الكونجرس من منح التأشيرات لبعض المجموعات - ومن بينها السوريون -اللبنانيون - أو إلغائها بالكامل. وعلى مدى نحو 30 عاماً لم يصدار أي تأشيرات أميركية جديدة لهم. استغلّ المهاجرون السوريون-اللبنانيون فرصاً أتاحها لهم وطنهم الجديد وازدهروا، فنمت عائلاتهم وتوسّعت أعمالهم.
وكانت قصة عائلتي جزءاً من هذا السَّرد المتواصل. فقد غادر شقيق والدي الأكبر، حبيب، لبنان عام 1910 وهو في الرابعة عشرة من عمره. وكان هدفه تهيئة الظروف لقدوم الآخرين من بعده. لكن الحرب والمجاعة تدخّلتا. إذ هربوا من المجاعة والخراب إلى سهل البقاع حتى نهاية الحرب، ثم عادوا إلى قريتهم. واستغرقهم الأمر حتى أوائل عشرينيات القرن الماضي قبل أن يتمكنوا من اللحاق بحبيب. وفي عام 1921، فعلوا ذلك جميعاً باستثناء والدي. وبسبب القيود المفروضة على منح تأشيرات للسوريين، سعى والدي المتلهّف للّحاق بعائلته إلى الحصول على عمل وتأشيرة سفر إلى كندا.
وبعد وصوله إليها، عبَر الحدود إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، ووصل إلى يوتيكا في عام 1923 حيث التحق بوالدته وإخوته. ومثل كثيرين من اللبنانيين والمهاجرين من العالم العربي الذين جاءوا بعد ذلك، وضع والدي وإخوته وأخواته لأنفسهم مساراً للنجاح في وطنهم الجديد. وبحلول وفاتهم كانوا قد أسّسوا سبعة أعمال تجارية، فيما أسّس أبناؤهم وأحفادهم المزيد منها أو أصبحوا من أصحاب المهن.
نمت الجالية السورية اللبنانية في يوتيكا لتتجاوز 6% من سكان المدينة، ولعبت دوراً مهماً في جميع جوانب المجتمع. في شبابي، كان يبدو وكأن كل زاوية شارع تضم متجراً صغيراً يملكه أفراد من جاليتي. كما بنوا ثلاث كنائس، وتم انتخاب عدد منهم لشغل مناصب عامة، وبرعوا في مختلف المهن، في التعليم والقانون والسياسة والطب. من الرائع أن نرى مدى استمرار هذا النمط من المهاجرين الناطقين بالعربية الباحثين عن فرصٍ وبناء النجاح في أميركا، مع المهاجرين الجدد إلى يوتيكا من دول عربية مثل فلسطين واليمن والعراق وغيرها.
إنها القصة الأميركية التي، رغم النّكسات والعثرات، لا تزال مُلهمة. كان والدي، الذي جاء إلى الولايات المتحدة دون وثائق في عشرينيات القرن الماضي، قد حصل على عفو في الثلاثينيات وأصبح مواطناً أميركياً مُتجنساً عام 1943. وتعلّق وثيقة تجنّسه على حائط مكتبي أسفل البراءة الرئاسية التي أصدرها الرئيس أوباما معلناً تعييني ممثلاً له في لجنة الحريات الدينية الدولية.
أُطلق عليه اسم «جدار قصتي الأميركية». قبل قرن من الزمن، كتب جبران خليل جبران «رسالة إلى الشبان الأميركيين من أصل سوري». وفيها يذكّر قرّاءه بالقيم التي حملوها معهم من أوطانهم، وبالفرص المتاحة لهم في وطنهم الجديد. وفي خاتمة الرسالة يحثّ جبران قرّاءه على أن «يقفوا أمام أبراج نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرانسيسكو قائلين في قلوبهم: أنا سليل أمة بنت دمشق وجبيل وصور وصيداً وأنطاكية، وأنا هنا لأبني معكم».هذا بالضبط ما فعلناه. إنها قصة المهاجرين، التي تتكرر يومياً، على يد موجات مختلفة من المهاجرين في مدن مختلفة في جميع أنحاء البلاد. هذا ما يجعل أميركا عظيمة.
*رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن
إقرأ المزيد


