مأساة السودان ومصائب «الإخوان»
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

مشكلات السودان طويلة العهد وشديدة التعقيد. لكنّ بدء المرحلة الحالية كان في انقلاب الضابط عمر البشير الذي قاده حسن الترابي زعيم «الإخوان المسلمين» أواخر ثمانينيات القرن الماضي. عمل الترابي على عدة خطوط، منها أخونة الجيش وأجهزة الأمن وإدارات الدولة. والخط الآخر السعي لفصل جنوب السودان عن شماله باعتبار أنه لا يمكن أسلمة الجنوب. والخط الثالث جمع الحركات الإسلامية المتطرفة بحجة إطلاق الثورة الإسلامية العالمية. والخط الرابع كان مخاصمة مصر على زعامة العالم العربي وأفريقيا ومحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك عام 1995 خلال وجوده بأديس أبابا لحضور القمة الأفريقية.
وبسبب هذه السياسات ترتبت نتائج مريعة على السودان، فاشتعلت الحربُ بين الشمال والجنوب من جديد، لتؤدي في النهاية إلى الانفصال وظهور دولة جنوب السودان، وانتشار الحركات المتمردة والمسلحة في أنحاء مختلفة من شمال البلاد وشرقها إلى جنوبها. ودخول السودان في عزلة دولية، وصراعات مع الدول الأفريقية المجاورة، وتوترات في الأقاليم السودانية وانتشار الصراعات الإثنية والقبلية، وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
لقد حدثت عدة تمردات مسلحة غير تمرد الجنوب الذي أفضى لانفصاله، ومن ذلك تمرد عام 2002 في دارفور أحد أوسع الأقاليم وأغناها بالبلاد بسبب الإدارة السيئة والفتن التي أثارها الإسلامويون بين القبائل العربية والأخرى الأفريقية. ومن سوء سياسات النظام أيضاً وأيضاً أنه عمد لدعم ميليشيا ناشئة تدعي تمثيل العرب في مواجهة الآخرين وفي العام 2004 جرى الاعتراف بها رسمياً كأنها جزء من الجيش.
وطوال عقدين من الاضطراب وسوء الإدارة، ظهرت عشرات التنظيمات المسلحة مما شكل تهديداً بانقسام السودان إلى عدة دويلات، فلجأ الجيش عام 2019 للاتفاق على تنحية البشير، والعمل مع المدنيين والنقابات الثائرة على مراجعة المسار كلِّه وصولاً لانتخابات وحكومة مدنية وابتعاد الجيش عن السياسة. وعندما ابتدأت هذه العملية التي عارضها الفريق الإخواني داخل السلطة، عمد رئيس مجلس القيادة العسكرية إلى استجلاب قوات «الدعم السريع» إلى الخرطوم وإشراكها في الحكم باعتبار قائدها نائباً لقائد الجيش. لكن بازدياد الضغوط على الجيش المنقلب شكلاً على نفسه من جانب «الإخوان» القدامى ومن جانب المدنيين، اتفق قائد الجيش مع الدعم السريع على تنحية المدنيين وتولي السلطة بنفسه من جديد بشراكة الدعم السريع، لكن مع «الإخوان» القدامى أيضاً.ولأن «الإخوان»، وطوال ثلاثين عاماً، ما أرادوا إشراك أحد، فقد دفعوا قائد الجيش وصحبه - ونصفهم منهم - إلى التصارع مع قوات الدعم السريع، فانقسم السودان (بما في ذلك الخرطوم) إلى قسمين، قسم مع الجيش تسيطر فيه ميليشيات «الإخوان» وحركات موالية، وقسم آخر تسيطر فيه قوات الدعم السريع. ودارت بين الطرفين مذابح هددت الدولة السودانية بالسقوط نهائياً، ليس بسبب الانقسام بين الجيش والدعم السريع، بل وبسبب مصارعة «الإخوان» للعودة للسلطة.
 منذ بدء الصراع قبل ثلاث سنوات أقيمت منصة جدّة للتفاوض من أجل إحلال السلم، كما أقيمت «الرباعية» من أميركا والسعودية ومصر والإمارات سعياً لتنظيم هدنة ودخول مساعدات إنسانية بعد انتشار المجاعات والتهجير والمذابح.
كلما فشل الجيش و«الإخوان» في مواجهة قوات الدعم السريع، يتهمون أطرافاً خارجيةً بالعمل ضد الجيش والدولة السودانية. وقد أدانت كل الدول (ومنها دولة الإمارات) ما حصل عند استيلاء قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر بعد طول حصار. كلا الطرفين يرتكب جرائم، وكلا الطرفين ينبغي أن يقبل الهدنة الإنسانية. لكنّ معاناة السودان لن تنتهي إلاّ بزوال «الإخوان» وعصائب الإسلام السياسي من المشهد، والذي أسهم بشكل رئيسي في تدمير الدولة السودانية على مدى أربعة عقود وأكثر.
الجيش السوداني المغلوب على أمره هو الذي أشرك «الإخوان» والدعم السريع في السلطة، والبلاد تعاني الآن من الصراع بينهما.

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية



إقرأ المزيد