جريدة الإتحاد - 11/23/2025 11:09:31 PM - GMT (+4 )
تشارلز تايلور فيلسوف كندي بارز، عرف بأعماله الرائدة حول التعددية الثقافية من منظور سردية الاعتراف وما تعنيه من قيم التعايش والتفاعل بين الثقافات والأنساق القيمية. وفي دراسة أخيرة منشورة بعنوان «أهمية الحوار الثقافي»، يكشف تايلور حدودَ ونقائص التعددية الثقافية، انطلاقاً من واقع الهجرات الكثيفة التي غيرت جذرياً تركيبةَ المجتمعات الغربية، وولّدت ردودَ فعل واسعة من بينها حركة اليمين الشعبوي الصاعد حالياً في جل الديمقراطيات الليبرالية.
ما تعنيه مقولة التعددية الثقافية لدى تايلور هو مقاربة الاعتراف بالهويات الثقافية المتنوعة التي تسمح للأفراد بالتشكل في مجموعات معيارية وانتمائية متمايزة. بالنسبة لتايلور تنبع التعددية من الحالة الفردية الذاتية التي تطبع المجتمعات الغربية، وتولد إشكالات غير مسبوقة تتعلق بآليات التعارف بين أفراد وكيانات يتمتعون بالحرية الكاملة وحق الاختلاف العقدي والفكري، دون الحاجة إلى سقف مرجعي عضوي على غرار التقاليد التاريخية الماضية. لقد ميز تايلور بين شكلين من الاعتراف في المجتمعات الحديثة: الاعتراف القانوني الليبرالي المؤسس على مبدأ المساواة في الكرامة الإنسانية باستقلال عن معايير الانتماء الثقافي الخصوصي، والاعتراف الاختلافي القائم على التنوع والتعددية ومنح حقوق خاصة بالمجموعات اللغوية والدينية والثقافية وفق خريطة التمايز الاجتماعي (ومن هنا التوفيق بين الكونية الليبرالية وإجراءات الاعتراف الثقافي). لقد تبنى تايلور هذا النموذج الثاني، واعتبر أنه الملائم لوضع المجتمعات المعاصرة، رافضاً فكرة حيادية الدولة ثقافياً ومؤسسياً.
فبالنسبة له على الدولة أن تضمن التوازن بين الثقافات وتعترف بالتنوع الثقافي وتخلق الظروف المناسبة للتعايش العادل بين المجموعات والأفراد. لقد طور الفيلسوف البريطاني «بيكو باريك» أطروحةَ التعددية الثقافية وفق متطلبات الفلسفة الديمقراطية، بدلا من اختزالها في سياسة إدارة التنوع الثقافي. فبالنسبة له، لا توجد ثقافة مكتملة، مكتفية بنفسها، ومن ثم لا محيد عن تفاعل الثقافات وتحاورها. ولذا يتوجب الخروج من مأزقين: النزعة المركزية الاثنوغرافية التي تتعارض مع أي أفق حواري، والنزعة النسبية التي تحول دون تقييم الثقافات ونقدها.إلا أن الحوار الثقافي بالنسبة لباريك يتطلب مجموعةً من المسلمات الأساسية، من بينها: تعددية تصورات الخير الجوهري، والمساواة الأخلاقية بين الثقافات، وضرورة بناء إطار مرن مشترك للتفاعل الثقافي.
مقال تايلور الأخير يعلق فيه على مقاربة باريك، من منظور المصاعب التي تعاني منها استراتيجية التعددية الثقافية في المجتمعات الغربية. وبالنسبة له، شكلت التعددية الثقافية خطوة متقدمة في مسار الديمقراطية الليبرالية، بما حققته من دمج واستيعاب المجموعات التي لا تنتمي للتقليد السائد أو المهيمن. لكن هذه المقاربة تصطدم اليوم بحدود جلية، من بينها التعايش السلبي بين المجموعات المتنوعة دون تفاعل أو تضامن بما يمنع الارتباط والتداخل فكرياً وقيمياً بينها، والميل إلى إضفاء الطابع الجوهري الجامد وغير التاريخي على الثقافات بما يحولها إلى منظومات مغلقة لا تتغير ولا تتحول، والاستقطاب الأيديولوجي الذي يتجسد حالياً في تنامي النزعات الهوياتية الخصوصية، وغياب رؤية موحدة لمتطلبات العيش المشترك بين مكونات الجسم الاجتماعي.
ومن هنا يخلص تايلور إلى أن نهج التعددية الثقافية لم يعد كافياً لضبط أشكال التعددية والتنوع التي تطبع المجتمعات الليبرالية الحالية، ولذا يختار بديلا عنه مسلك الحوار الثقافي التفاعلي الذي يحترم واقع الاختلاف والتباين بين الثقافات، لكنه يقر بإمكانية التقاء الثقافات وتطور الهويات، منيطاً بالدول واجبَ خلق الظروف الملائمة لهذا التثاقف الضروري في إطار مجال تداولي عمومي حر. ما نريد أن نبينه هو أن مقالة تايلور الجديدة تعكس الأزمة العميقة لنظرية الاعتراف التي تبلورت منذ هيغل كحل لمشكل التنوع في مجتمعات تتأسس على حرية الوعي الفردي والحيادية القيمية للسلطة العمومية إزاء مختلف الأنساق الثقافية والمعيارية. لقد حاول تايلور تجاوز الحل الهيغلي الذي أناط بالدولة الكلية المطلقة مسؤوليةَ الاندماج الاجتماعي الشامل الذي عجزت عن تحقيقه النظريات التعاقدية التوافقية، فكان تركيزه على شكل الاعتراف الاختلافي المكمل للاعتراف القانوني الليبرالي.
لكن تايلور أدرك عمق الإشكالية المتولدة عن التوفيق بين معيار الكونية الليبرالية الرافضة لحقوق التنوع الثقافي ومعيار التعددية الثقافية الذي يفضي إلى تكريس النسبية القيمية التي يمكن أن تعصف بالنظام الاجتماعي المشترك. الحوار إذن هو المسلك للخروج من هذا المأزق، وعياً بقدرة النقاش التداولي الحر على التوصل إلى قناعات موزونة عقليا تجمع بين أنساق ثقافية متمايزة، وبذا يتم الجمع بين مطلبي الحرية والتضامن من حيث هما ضرورتان موضوعيتان في الواقع الراهن.
*أكاديمي موريتاني
إقرأ المزيد


