جريدة الإتحاد - 11/23/2025 11:16:50 PM - GMT (+4 )
في كل الحروب الداخلية أو الأهلية، وإذ تبدو لحظة الانزلاق إلى الحرب سهلة ومتوقَّعة، فإنّ المُضي فيها وإطالتها يراكمان التعقيدات والصعوبات، ليبدو بعدئذ الخروج منها عسيراً، بل مستحيلاً أحياناً. ما البديل في هذه الحال؟ أن ترتّب الأطرافُ وضعَها على أساس أن حسم المواجهة متعذّر لفريق ضد آخر فيبقى الصراع مفتوحاً ودائماً، ويشرع هذا الفريق وذاك في التدبّر لإدامة سيطرته حيثما استطاع ولتحسين موقفه عسكرياً وتفاوضياً في انتظار الظروف الفضلى، داخلياً وإقليمياً وحتى دولياً، كي تساهم في رسم خريطة طريق إلى حلٍّ لا بدّ أن يكون سياسياً، وأن يدفع فيه الطرفان ثمَن مسؤوليتهما عن إشعال الحرب، وأن يتنازلا عن قدر كبير من طموحاتهما لمصلحة الفئات المدنية التي أُصيبت بأفدح الخسائر جراء القتال وما رافقه من فظائع.
كلّ حروبٍ من هذا النوع مرّت بهذا السيناريو، تناسى أطرافُها حقائقَ بلادهم سعياً إلى الظفر بالسلطة، أو لتغليب فئة على فئة، فعرفت شعوبهم مجاعات وزادت فقراً وتأخراً في التنمية وسُخّرت مواردها لتحقيق مطامع وأوهام من ظنّوا وادّعوا أنهم الأفضل للقيادة أو الزعامة. ولا يختلف السودان في حال البؤس التي يعيشها اليوم عن أي بلد مرّ بالاقتتال الأهلي، وأمثلة سوريا ولبنان واليمن والصومال، وإلى حدٍّ ما ليبيا، وقبلها العراق، لا تزال ماثلة، وقد تَقَوّضت اقتصاداتها، حتى إن أكثر التقديرات تفاؤلاً لا تتوقع تعافيها قبل عقود. كما أن بعضاً منها هددته مشاريع تفتيت وتقسيم، إذ تعاظمت استحالة التعايش بين أبنائه ومناطقه. وليس هذا بغريب على السودان الذي شهد إحدى أطول الحروب الداخلية ولم تنتهِ إلا بتدخّلات دولية أفضت إلى فصل جنوبه عن شماله، والآن بعد عامين ونيّف من الحرب، وعلى خلفية مجازر دارفور وكردفان، يتجدّد الحديث عن التقسيم، وما التقسيم سوى مشروع لدولة أو دولتين تتنافسان في الفشل وفي الحكم على مستقبل شعبيهما بالعوز والتخلّف.
وأخيراً، أصبح إنهاء الحرب في السودان مطلباً دولياً، فالعالم عاش عامين وأكثر على مشاهد مروّعة من قطاع غزّة، ولا يريد أن يرى المزيد. فرغم كلّ ما حصل ويحصل لا يزال للمشاعر الإنسانية هيبة وسلطة، وإذا لم يكن تأثيرها الفعلي فورياً، كما يُراد له، إلا أن غليانها في مرجل السياسات، لا بدّ أن يفرض نفسه.
لا أحد يجهل أهمية بلد كالسودان، مهما جرى تجاهلها، وعندما بلغت الحرب الخط الأحمر تعالت النداءات بأن الوقت حان لوقفها، فما تحمّله السودانيون من ذلٍّ وألمٍ وتشرّدٍ، وصولاً إلى الجوع، بات وصمة عار لأطراف الحرب، وحين ترتسم إرادة دولية فإن اللعبة قد تنقلب عليهم جميعاً.
قرّر الرئيس الأميركي أخيراً إيلاء اهتمامٍ خاصٍ بوقف الحرب في السودان، ومن شأن التدخّل الأميركي أن يصنع فارقاً بعد كل المحاولات العربية والأفريقية والأممية، وبمساهمة أطرافها. قبل ذلك، عشية أحداث الفاشر، كانت الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات ومصر) توصّلت في اجتماعات لها في واشنطن، وتخللتها مشاورات منفصلة مع ممثلين عن طرفي الحرب (الجيش السوداني وقوات الدعم السريع) إلى خريطة طريق أولية للانتقال بالوضع السوداني إلى مرحلة البحث عن سلام. ولا تزال هذه الخريطة صالحة وينبغي تفعيلها، بدءاً بهدنة إنسانية، ثم بوقف لإطلاق النار، تمهيداً لمفاوضات حل سياسي بمشاركة ممثلي الهيئات المدنية. والأهم أنها حدّدت هدفين مسبقين: حكومة مدنية، والعسكريون في الثُّكَن. وبطبيعة الحال فإنّ نجاح أيّ حلّ يتوقف على الأخذ بدروس الماضي: العسكريون هيمنوا على البلاد ولم يحسنوا إدارتها، وتحالفهم مع «الإخوان» والإسلاميين عمّق إخفاقهم.
*كاتب ومحلل سياسي - لندن
إقرأ المزيد


