ضاع القلم.. وضاع صاحبه
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

كيف تغيرت الأمور، وانقلبت الأحوال، وتسارعت الأشياء في حياتنا حتى لم نعد نميز، ما الذي سيبقى معنا؟ وما الذي سيسبقنا؟ وما الذي سيتأخر عنا؟ صعب أن نحتفظ بالأشياء في ظل المتغيرات والمسرعات، زمان.. كان الذي خطه جميل يكتب له المدرس «أحسنت، لا شُلّت يدك»، والذين كانت خطوطهم مثل مشية الدجاجة، يكتب لهم المدرس «حسّن خطك، وانسخ الدرس خمس مرات».
زمان.. كان «الكراني» ذا صوت وحس عاليين، كان يقلط على أصحاب الخناجر والمحازم، والناس «تشتفّ» له، ويأتونه من بعيد، ويكادون يحمّلونه من القضايا فوق طاقته وموهبته، فقط لأنه يستطيع فكّ الخط، وقراءة الرسائل، ويكتب ديون الناس، كانت مهنته كبيرة وذات حظوة اجتماعية، لأن من كان مثله قليل في ذاك الزمان، فالجميع كان يبصم بإبهامه أو «يمغرّ» بخاتمه، وزمان أيضاً.. كان الرجل يتباهى بحمل أكثر من قلم في جيب كندورته العلوي، دليل المكانة المرموقة، والإيحاء بأنه متعلم وصاحب قلم «فنان».
اليوم.. ضاع القلم، وضاع صاحبه، لو تسأل أحداً ليس من الجيل الجديد بل جيل الطيبين: متى آخر مرة حملت قلماً في جيبك؟ أو كم مضى عليك من شهر لم تستعمل فيها القلم؟ وستجد أنه، حتى أصحاب المهنة، تحولوا إلى القلم الإلكتروني أو الكتابة بطريقة اللمس، ولقد أحزنني أنني أعرف أشخاصاً من أصحاب الموهبة والخط المرتب الجميل والمقروء، بعد فترة من الغياب عن الممارسة اليومية للكتابة بالقلم، صارت أصابعهم رخوة، وبهتت خطوطهم الجميلة، وغدوا هواة بعدما كانوا محترفين.
أتفكر في الحال اليوم وحال زمان عندما كنا طلبة، نظل نكتب بقلم الرصاص «البنسل» حتى نقدم امتحان الشهادة الابتدائية العامة، وبدءاً من الصف الأول الإعدادي يسمح لنا باستعمال قلم الحبر الجاف «بيغ»، وفي الثانوية يمكننا استعمال قلم الحبر السائل «بو بمب» مثل «باركر 21» أو قلم «شيفر».
الآن.. لولا أولئك الخطاطون المخلصون للقلم القصب والحبر، والممارسة اليومية، والاعتزاز بتلك الموهبة الربانية، والمحافظة على الأصول، باتباع معلميهم والسير على نهج مدربيهم والاعتزاز بمدارس الخط العربي، لاندثر الخط العربي، وضاعت جمالياته وزخرفته وهندسته وانسيابيته، وكأنه يُنَطّق الحروف، لولا تلك المدارس العتيقة في القاهرة وبغداد ودمشق وتركيا وبخارى ومكة والمغرب العربي، لصار الخط العربي محنطاً في رفوف المكتبات القديمة، أو مدفوناً في الحاسوب الجديد، الذي يعطيك الخطوط بأنواعها لكن دون روح، ولا ثمة رائحة للورق والحبر، ولا ارتجافات تلك الأصابع النحيلة للخطاط العاكف على استخراج جمالية ورحلة صوفية لتلك الحروف المتناغمة، والهاربة بظلالها القُدسية.
تحية لكل أولئك المعلمين الكبار وتلامذتهم النجباء من الخطاطين العرب والمسلمين الوارثين ممن يتدثرون بالعربية وحروفها.
ويعنّ على الرأس بين الحين والحين خطاط أندلسي، وجدته مرة عند جامع قرطبة قبل أكثر من ثلاثين سنة، يخط ذلك الخط الأندلسي القديم المتراقص، وهو لا يجيد العربية، لكنه يعتز بأن جده الثامن اسمه عربي، ويكاد يعرف بيتهم القديم أو بقايا ظلاله، ولا يعرف كيف تسللت تلك الخطوط إلى أصابعه فأنطقتها مع عجز اللسان!



إقرأ المزيد