جريدة الإتحاد - 12/24/2025 11:10:35 PM - GMT (+4 )
في لحظة إقليمية مضطربة، تتكاثر فيها الأزمات وتختلط الوقائع بالروايات، جاءت رسالة معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، لتضع الأمور في سياقها الحقيقي، لا بوصفها رداً انفعالياً على حملات إعلامية، بل كتشخيص هادئ لطبيعة الاستهداف الذي تتعرض له دولة الإمارات، ولمغزى هذه الحملات وأسبابها وحدود تأثيرها.
فالكلام هنا لا ينطلق من موقع دفاع مرتبك، بل من موقع ثقة بدولة تعرف ماذا تريد، وأين تقف، وكيف تُدار مصالحها الإقليمية والدولية. الإشارة إلى «الحملات الشرسة» ليست جديدة في حد ذاتها، لكن اللافت في حديث قرقاش هو التفريق الواضح بين مصادر متوقعة وأخرى غير متوقعة. هذا التفريق يكشف أن المسألة لم تعد مقتصرة على خصومات سياسية تقليدية، بل امتدت إلى أطراف وجدت في مهاجمة الإمارات وسيلة للهروب من أزماتها الداخلية، أو لتبرير فشلها في إدارة شؤونها الوطنية. هنا تتحول الإمارات، في الخطاب التحريضي، إلى شماعة تُعلّق عليها الإخفاقات، بدل أن تكون هناك شجاعة في مواجهة الأسباب الحقيقية للأزمات. جوهر رسالة قرقاش يتمثل في تفكيك هذا المنطق.
فالإمارات، كما يؤكد، ليست صاحبة مطالب الشعوب، ولا وصية على تطلعاتها، ولا مُصدّرة لأجندات تقرير المصير أو أنماط الحكم. ما يريده السودانيون من سلام وحكم مدني هو تعبير عن إرادتهم هم، وما يطالب به أهل الجنوب من حق تقرير المصير هو نابع من واقعهم وتاريخهم وتعقيداتهم. هذا التمييز بالغ الأهمية، لأنه يعيد الاعتبار لمبدأ أساسي في السياسة: الشعوب ليست أدوات في يد الدول، ولا تختصر إرادتها في تدخل خارجي، سواء كان حقيقياً أو متخيّلاً. الأكثر دلالة في هذا السياق هو نفي الإمارات الصريح للسعي إلى الزعامة أو النفوذ. في منطقة اعتادت على قراءة كل تحرك إقليمي بوصفه محاولة للهيمنة، يأتي هذا الطرح ليؤكد نموذجاً مختلفاً: نموذج الشراكة لا الوصاية، والتعاون لا الإملاء. الإمارات، وفق هذا المنظور، لا تعمل منفردة ولا في الخفاء، بل مع شركائها، وضمن أطر واضحة تقوم على الثقة والوضوح والتكافؤ.
وهي مفاهيم لا تُطرح كشعارات إعلامية، بل كقواعد عملية أثبتت حضورها في أكثر من ملف إقليمي ودولي. الحملات التي أشار إليها قرقاش، رغم حدتها، تبدو في مجملها معدومة النتائج، ليس لأن الإمارات محصّنة إعلامياً فقط، بل لأن الواقع على الأرض لا يسعف هذه السرديات. فالدول تُقاس بأفعالها لا بخطاب خصومها، وبسجلها في الاستقرار والتنمية لا بضجيج الحملات الموسمية. ومن هنا، فإن استهداف الإمارات يعكس في كثير من الأحيان مأزقاً لدى المستهدفين أكثر مما يعكس نقداً لسياساتها.
في البعد الأوسع، يمكن قراءة رسالة قرقاش كإعادة تأكيد على موقع الإمارات في معادلة إقليمية معقدة: دولة لا تبحث عن دور فوق طاقتها، لكنها في الوقت ذاته لا تقبل أن يُفرض عليها دور سلبي أو أن تُشوَّه خياراتها.
دولة ترى أن الاستقرار الإقليمي ليس شعاراً أخلاقياً، بل مصلحة مشتركة، وأن محاربة التطرف ليست تهمة بل واجب، وأن الشراكات المتوازنة هي الطريق الوحيد لبناء مستقبل قابل للاستدامة. في زمن تتكاثر فيه الأصوات وتتناقض فيه الروايات، تبدو أهمية هذا الخطاب في بساطته ووضوحه. فهو لا ينكر وجود الخلافات، ولا يدّعي الكمال، لكنه يضع خطاً فاصلاً بين النقد المشروع، والحملات التي تُدار بدوافع سياسية أو نفسية. وبين هذا وذاك، تواصل الإمارات نهجها: عمل هادئ، حضور محسوب، وشراكات تُبنى على أساس المصالح المشتركة لا على صخب الشعارات.
*لواء ركن طيار متقاعد
إقرأ المزيد


