جريدة الإتحاد - 12/24/2025 11:39:51 PM - GMT (+4 )
لم تعد «المرحلة الثانية» في غزة بنداً تفاوضياً يُؤجَّل أو يُستعجَل وفق إيقاع السياسة، بل أصبحت اختباراً لمعنى ما بعد الحرب: من يملأ فراغ الحكم؟ من يضمن الأمن؟ ومن يموّل الإعمار دون أن تتحول الأموال إلى وقود لجولة صراع قادمة؟ هنا تحديداً يظهر مفهوم «مجلس السلام» كمحاولة لنقل غزة من معادلة السلاح إلى معادلة الإدارة والمسؤولية.
الجديد أن الملف لم يعد يدور في نطاق «الأفكار» وحدها، بل بدأ يقترب من صياغات تنفيذية. اجتماع ميامي الذي جمع الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا، بحسب بيان المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، لمراجعة حصيلة المرحلة الأولى وبحث الانتقال إلى المرحلة الثانية، وضع على الطاولة نقاطاً محددة: تمكين «هيئة حكم» تعمل ضمن سلطة موحّدة، وتفعيل «مجلس السلام» كآلية انتقالية تشرف على الملفات المدنية والأمنية وإعادة الإعمار، مع تأكيد الالتزام بخطة السلام ذات البنود العشرين.
هذا التطور يشي بأن العالم بدأ يدرك ما تجاهله طويلاً: أن وقف النار لا يصنع سلاماً إذا بقيت غزة بلا إدارة قابلة للحياة.
لكن الانتقال من الورق إلى الأرض لا يمر من بوابة التفويضات وحدها، بل من بوابة الأسئلة الصعبة: القيادة والسيطرة، قواعد الاشتباك، مناطق الانتشار، ومدى قبول الأطراف المحلية قبل الإقليمية. وهو ما انعكس في قمة الدوحة التي ناقشت «قوة غزة الدولية» بمشاركة القيادة المركزية الأميركية وأكثر من 45 دولة، حيث تحولت الفكرة من شعار إلى اختبار عملياتي ثقيل التكلفة. غير أن أي هندسة انتقالية تصطدم فوراً بعقدة الشرعية. ف«مجلس السلام» لن ينجح إذا بدا كوصاية أنيقة أو إدارة مفروضة. نعم، التكنوقراط يخفّفون الحساسية السياسية، لكنهم لا يُغنون عن مظلة فلسطينية إصلاحية قادرة على تحمل تكلفة القرار وإعادة إنتاج الثقة داخل غزة وخارجها. الشرعية ليست تفصيلاً بروتوكولياً، إنها الوقود الوحيد الذي يمنع انزلاق المرحلة الانتقالية من إدارة مؤقتة إلى احتكاك دائم. الاستقرار في غزة ليس مسألة تهدئة فقط، بل مسألة احتكار القوة داخل إطار حكم مسؤول. من دون ذلك ستظل أي قوة استقرار شاهداً على الفوضى لا أداة لمنعها.
ومعضلة السلاح هنا ليست تقنية بل وجودية، لأن التنظيمات التي بنت مشروعها على العسكرة ترى في نزعها نهاية لدورها. لذا فإن المطلوب ليس تكرار الشروط كأنها تعاويذ، بل بناء مسار واقعي: أمن قابل للتنفيذ، بتفويض واضح، وبأدوات مراقبة ومحاسبة، وبضمانات تمنع عودة اقتصاد الأنفاق والتهريب تحت أي مسمى. أما الإعمار فهو الامتحان الأكثر حساسية، لأن الإعمار ليس إسمنتاً وحديداً، بل منظومة حوكمة تمنع تحويل المساعدات إلى «سلطة ظل». وحتى المشاريع الطموحة التي تتحدث عن «وادي سيليكون فلسطيني» ستتعثر في بيئة غير آمنة، وبلا أفق سياسي، وبلا إجابة عن السؤال البديهي: أين سيعيش نحو مليوني إنسان أثناء إعادة البناء؟ فضلاً عن اشتراطات الممولين حول طبيعة الحكم وآليات الرقابة. الإعمار الحقيقي يبدأ بإزالة أسباب الانهيار: إدارة مدنية قابلة للحياة، وأمن يمنع عودة الميليشيات، ورؤية سياسية لا تدفن القضية تحت خرائط استثمارية جميلة.
«مجلس السلام» ليس اسماً جذاباً لمرحلة انتقالية، بل ميزان نوايا. إمّا أن يتحول إلى منصة تُنهي الحرب عبر حكم فلسطيني مسؤول وأمن قابل للتنفيذ وتمويل مشروط بالحوكمة، أو يتحول إلى عنوان لإدارة آثار الحرب فتعود غزة إلى هدنة بلا دولة، وإعمار بلا سياسة، ثم عودة إلى نقطة الصفر. وفي هذا المشهد، لا يكفي أن يسأل العالم: هل نريد إيقاف النار؟ بل يجب أن يجيب عن السؤال الأصعب: هل نريد منع تكرار المأساة؟
*كاتب إماراتي
إقرأ المزيد


