جريدة الإتحاد - 12/24/2025 11:46:44 PM - GMT (+4 )
في عام 1991 انهار الاتحاد السوفييتي، وفي عام 1993 أصدر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا كتابه الشهير «أطياف ماركس». أراد جاك دريدا أن يقول إن الماركسية لم تقل كلمة الوداع، وأن المباراة لاتزال قائمة، وأن تناقضات الرأسمالية الداخلية كبيرة، وتهددها. أما إرث كارل ماركس فإنه لم يتلاشَ مع تلاشي سور برلين، بل إنه تحول إلى «طيف» أو «شبح» يهدد النظام العالمي الجديد.
كان الرئيس جورج بوش الأب قد استبق سقوط الاتحاد السوفييتي بعام في إعلانه بداية النظام العالمي الجديد، ربما لأنه كان على يقين من الانهيار، أو ربما لأنه أراد بإعلانه هذا أن يعجل بلحظة النهاية. وهكذا كانت السنوات الأولى من التسعينيات: في عام 1990 أعلن بوش الأب بداية نظام عالمي جديد، وفي عام 1991 سقط الاتحاد السوفييتي، وفي عام 1992 صدر كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» والذي يقول بانتهاء سباق العالم للايديولوجيا، وذلك بانتصار الليبرالية الرأسمالية الغربية وهزيمة كل ما عداها، وأن الغرب الذي شارك الاتحاد السوفييتي في قيادة العالم بعد الحرب العالمية الثانية، سيتولى منفرداً قيادة العالم من الآن.. وإلى الأبد. هكذا جاء كتاب دريدا «أطياف ماركس» كأول هجمة فكرية مرتدة تواجه ذلك السياق الممتد من خطاب بوش إلى كتاب فوكوياما.
انتقد دريدا الانغلاق الايديولوجي للماركسية، والذي أدى إلى فشلها، ودعا الرفاق في كل مكان إلى أن يتجاوزوا جمودهم وإحباطهم.. وأن يستعدوا للعمل من جديد. على الرغم من هذا التحريض الكبير على المواجهة، إلاّ أن الرؤية الماركسية كانت تحمل قبول الهزيمة، والتخلي عن حلم القيادة، والاكتفاء بدور المعارضة العالمية، وتعكير صفو النظام العالمي الجديد، وبذل كل المحاولات الممكنة لإفساد اللعبة أو عرقلة اللاعبين، وتخريب نشوة الانتصار. على مدى العقود التالية.. كان شبح الماركسية حاضراً لكنه لم يكن مخيفاً، وكانت الليبرالية الغربية تشق طريقها من دون حواجز، بل لقد ظهرت نسخة جديدة من الليبرالية المتطرفة، ليندفع الغرب إلى حافة الخطر. أصبحت تناقضات الرأسمالية أكبر من أن تختفي وراء ذلك كله، فإذا بالشعبوية تصعد وتتوسّع، وكان أن خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بينما يفكر فرنسيون وألمان في ذلك، ثم كان صعود القادة والأحزاب الذين لا يريدون مهاجرين ولا يرغبون في المزيد من وجود الآخر.
وبعد ذلك جاءت إجراءات الحماية الجمركية، والتي كان النظام العالمي الجديد يبشر بنهايتها. وهكذا فإن المنظومة الفكرية كلها باتت موضع حالة من عدم اليقين، ومع صعود أطروحة البريكس، والدور المتنامي للصين في النظام العالمي، وضعف الضفة الشرقية للأطلسي في أوروبا بعد حرب أوكرانيا.. أصبحت الليبرالية الكلاسيكية مهددة كما لم يحدث من قبل. إن ما وضعه جون لوك ثم آدم سميث ثم جون ستيوارت ميل أصبح بعيداً عن المشهد الايديولوجي الغربي المعاصر.
وراح بعض المفكرين الأقل تفاؤلاً يتحدثون عن نهاية الليبرالية، أو ما بعد الليبرالية. في تقديري.. إذا امتدت هذه الحالة من الاستقطاب بين الليبرالية والشعبوية، ومن ورائهما تطل أشباح الماركسية، قد نجد أنفسنا إزاء نهاية الليبرالية التي أسسها جون لوك ورفاقه، وربما نرى في العقود القليلة القادمة ظاهرة فكرية معاكسة هي «أطياف جون لوك»، فقد تصبح الليبرالية الكلاسيكية شبحاً يهدد ما بعد الليبرالية، بمثل ما هدد شبح الماركسية الايديولوجيا الليبرالية. ثمة زاوية أخرى في هذا الأمر.. ذلك أن ماركس وأشباحه وجون لوك وأشباحه.. كلهم من الإنتاج الفكري للغرب، وتمثل كل تلك الجولات معارك فكرية داخل الحضارة الغربية، أو أنها خرجت منها ثم عادت إليها.
في محاضرته بجامعة القاهرة في أبريل 1964 قال المفكر والمؤرخ البريطاني الشهير «آرنولد توينبي» إن الشيوعية هي اختراع غربي، فقد ولد كارل ماركس وإنجلز في ألمانيا، وقضيَا جزءاً من حياتهما في بريطانيا، وألف كارل ماركس معظم كتاباته بعد قراءته في مكتبة المتحف البريطاني في لندن، كما كان إنجلز صاحب مصنع صغير في مانشستر بانجلترا، وكان ينفق منه على كارل ماركس وأسرته. وعلى ذلك فالشيوعية هي سلعة غربية استوردها الشرق، ثم أسقطها الغرب، والديمقراطية الليبرالية هي سلعة غربية استوردها البعض، وقد يسقطها الغرب، فتكون الليبرالية قد أسقطت الماركسية، وتكون الشعبوية قد أسقطت الليبرالية. إنه اللايقين، ثم إنه الطريق الدائري للفلسفة السياسية.
*كاتب مصري
إقرأ المزيد


