جريدة الإتحاد - 12/26/2025 12:58:19 AM - GMT (+4 )
يثير سؤال الدين والمعتقد إشكال العلاقة بين حدّين يبدوان في بادئ الرأي مُتماهيين في حين أن العلاقة بينهما هي علاقة انفصال مُؤَدْلج؟إن الحديث عن الدين وكأنه قول متواطئ يفتقر إلى الدقّة، فالدّين وإن كان واحداً عند أمّة ما، فهو متعدّد بتأويلاته، متفرّع بمعتقداته، ولعل أهم مقاربة للدّين نجدها في ثلاث طرق، طريقة حي بن يقظان، وطريقة سالامان، وطريقة آسال، إذا نحن استعرنا أبطال «قصة حي بن يقظان» لابن طفيل.
«طريقة الشّريعة الخاصة بالحكماء» التي تصل إلى القضايا العقدية بالعقل وحده، وهي طريقة تستلهم منهج المشائين والأفلاطونية المحدثة، وكذا منهج أصحاب التّحسين والتّقبيح العقليين، وهي طريق حي بن يقظان. ثم طريقة التناول الظاهري للنصوص الدينية، وممارستها بشكل حرفي في خضم الحياة اليومية التي تستغرق تفكير النّاس وهمومهم، مما يجعل حضور الدين حضوراً سُننياً يُلبي المصالح الضّرورية والحاجية والتّحسينية لأعضاء المجتمع، وهي طريق الجمهور أصحاب سالامان. وطريقة الغوص الباطني في النّفس الإنسانية لالتماس الحقيقة عند صفائها، وطريقة الصّرف العقلي لألفاظ النّصوص لاكتشاف معانيها الثّاوية في النّفوس عند صفاء الحدْس وتوقُّد العاطفة والفكر، فتصرف ظواهر النصوص إلى دلالات أخرى تحتملها، مما يجعل حضور الدين أقرب إلى العلم والفلسفة والعرفان، وهي طريق آسال.
إنّها طرق مختلفة تؤثر حتماً على النّظر إلى الدّين في علاقته بكل ما يبدو غريباً عنه و«دخيلاً» عليه، وتحوِّله إلى معتقد. ولعل تاريخ الدّين في المجتمع الإبراهيمي الكبير بدياناته الثلاثة لم يخرج عن هذه المسارات.
إن تأملنا في هذه الصور الثلاث للدّين تقودنا إلى القول إن المعتقد هو أوسع من الدين، وإن كان الكثير يسمي الدّين معتقداً. فالدين وحي ونصوص أما المعتقد فيتشكل في هذه المساحة العقلية والثّقافية التي يحضر فيها التأويل، ولهذا السّبب ميّز ابن رشد، بين ما سمّاه «الشريعة الأولى» قاصداً الوحي في تلقّيه الأول والمتمثّل في جملة النّصوص التي تؤخذ على ظاهرها للغاية المقصودة منها وهي «السعادة المشتركة» للجميع، وبين المعتقد وهي جملة التأويلات الكلامية والعرفانية التي تزعم أنها تعبر عن حقيقة الدين، في حين أنها تأويلات أطّرتها سياقات مختلفة شكلت أبنية فكرية تعبر بها جماعة ما عن مقاصد نظرية عملية مضمرة حيناً ومكشوفة أحياناً كثيرة.
فهذا جمهور الفقهاء في الأندلس، مثلاً، كان منخرطاً في إطار نسق شيده علماء كلام تبنّوا فلسفة ديموقرطس للدفاع عن عقيدة الخلق من العدم، على أساس أن العالم المؤلف من أجزاء لا تبقى، لا يمكن أن يكون أزليّاً، حيث اعتبر المتكلمون معتقد الخلق من عدم وحياً، فالمتكلمون بنوا هذه العقيدة على عدة أدلّة منها دليل أن الإرادة القديمة تعلّقت بإيجاد العالم في وقت مخصوص وهو الوقت الذي وجد فيه. إن المتكلمين في قولهم بالخلق من عدم كما يقول ابن رشد: «ليسوا...على ظاهر الشرع، بل متأولون. فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نص أبداً». بل إن ابن رشد يرى أن ظاهر الشريعة يوافق غير هذا المعتقد، قال تعالى: «وكان عرشه على الماء» ويستنتج منها أن الماء والعرش قديمان، ثم قوله تعالى «يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات»، لبيان أن العالم أبدي ولا يفنى إنما يتحول فقط ويتغير إلى صورة أخرى.
نستنتج من ذلك أن الوحي هو غير المعتقد، وكثير من المعتقدات التي تحفل بها شريعتنا في حاجة إلى مراجعة فكرية صارمة لتخليص الدّين مما عرض له من تغييرات.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.
إقرأ المزيد


