جريدة الإتحاد - 12/27/2025 12:24:04 AM - GMT (+4 )
تعرفت لأول مرة على «ابن بطوطة» من خلال كتابه المزخرف بالسجع «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» في الصفوف المدرسية المتوسطة، أيامها كانت القراءة والسينما هي متع الحياة، لذا بقي ذاك الكتاب وصاحبه في قاع الذاكرة، حتى قررت زيارة مدينته، وزيارة قبره وقراءة سورة الفاتحة عند رأسه، ترحماً وتعبيراً عن الحب والفخر بما أنجز، كان ذاك قبل خمسة وعشرين عاماً ويزيد، وكنت وقتها صغيراً مثل أترابه، شغوفاً مثله في حب الأمكنة وارتياد الآفاق، وطلب الأسفار واكتساب المعارف الإنسانية، ورؤية حضارات الآخرين.
دخلت مدينة طنجة العالية، تقصياً لأثر ابنها الرحالة «ابن بطوطة» وقبره الذي يتخذ ركناً قصيّاً من درب بيوت الناس البسطاء، وسوقهم الشعبي، وفي زنقة ابن بطوطة، حيث يرقد ذلك الرحالة بين ضجيج ذلك الحي الفقير، ضريحه مهمل، وكل ما حوله تسوده الفوضى، وعدم الاهتمام، رغم أنك أينما نظرت وجدت كل ما يخلد اسمه، حوانيت تسمت باسمه، حلاق ابن بطوطة، جزارة ابن بطوطة، حلويات ابن بطوطة، خياط ابن بطوطة، قهوة ابن بطوطة، مدرسة ابن بطوطة، «استاد» ابن بطوطة، كل ذلك دليل محبة ورد الجميل من الناس وتقديرهم وفخرهم بأحد أسلافهم القدماء الذي أعطى لمدينتهم وللمغرب عموماً شهرة لا توازيها شهرة حتى اليوم، حتى ليقال أن شهرة «ابن بطوطة» فاقت شهرة المغرب قديماً.
بعد تلك الزيارة القصيرة قبل خمسة وعشرين عاماً ويزيد مضت، والواجبة عليّ كمحب لتلك الشخصية الجغرافية والتاريخية والإنسانية، وكتلميذ يتمنى أن يستقصي دروب معلمه التي سلكها بصعوبة ذلك الزمن، وخطواته في المدن الكثيرة، لذا قررت أن أبدأ بأول رحلة قطعتها من مدينته على ظهر سفينة تحمل اسمه «ابن بطوطة» من ميناء طنجة إلى الخثيرات مبتغياً تتبع أثره في الأندلس التي قرأ أمكنتها وعرف ناسها وسجل أحداثها ويومياتها، ولتكون لي فيما بعد عادة، كلما دخلت أي بلد زاره، أحاول بقدر المستطاع أن أسلك طريقه، ولكن بوسائل المواصلات الحديثة، متذكراً كم تعب هذا الإنسان، وكم لقي من العناء في سبيل شغفه المعرفي، وطموحه الإنساني، والذي كان يقول: «أعانني على الترحال بدنٌ قوي يتحمل المتاعب ويقاوم الأمراض بصورة تدعو إلى العجب، كنت آكل كل طعام عدا المحرّمات، لم أشكو سوء هضم إلا مرة وحيدة، كنت لا أتخيّر طعاماً، بل آكل ما أجد، وربما كنت أصوم عن الطعام أياماً حتى يصح بدني إذا ما ألمّ به سُقم».. ونكمل غداً.
إقرأ المزيد


