مطر يذكرني بوالدتي
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

للصباح أن ينشر فضته سوف أرقد في سريري، له أن يتسلل من الستائر التي نسيتها وأنا أحاول أن أهيئ نفسي لنوم عميق.. له أن يتباهى بإشراقته في بهو الحديقة، وأن يختال مراوغاً زاويتي.. ولي أن أنتقيه مراوغة سطوعه للحن «الفلوت» أن ينسكب هادئاً ومترفاً بالحنين، يبحر في بهجة الأشواق ويستنفر الصبوات من سباتها، نافضاً غبار النسيان عن والدتي. وعن وجوه تغلغلت هناك في أعماق خلايا القلب، أصدقاء مروا كغمام مكتنز بالمطر والعناقيد والأحلام، كطيور مهاجرة حطت في  القلب، ومضت مخلفة حنيناً يستعصي على النسيان، وثمة أحبة يوقظون الحنين. للمطر أن ينسكب ليصل السماء بالتراب، الروح بالوجود، الأشياء بحضورها، الذاكرة بالتيقظ. ثمة حنين ينهض من قيعان الروح حين ينهمر المطر، ثمة صور وغيوم وكائنات، أزهار وعشب وأشياء منسية في البعيد. أحباء مروا وأقاموا وغادروا واستقروا في الذاكرة، كأنهم أطياف عبرت أفقاً وتناثرت، وتلألأت في السديم! أي انفعالات وخيالات مبهمة واضطراب يوقظه صوت المطر، أي مشاعر وأشواق ومسرات تنهض حين ينهمر المطر. ألم الروح حين أمي لا تطال، حين الحاجة تسير إلى انطفاءاتها كأوراق مصفرة في خريف الصبر! أي عذوبة تنهض في المطر ونشيد يطرق نوافذ النسيان، عذوبة مرت في ومضة حب. صور تنبعث، مخاوف وضحكات، دموع توشك وصلابة كبريق الماس! أي تكوين باذخ لهطول المطر. حركة وإيقاع، ألفة وتناقضات، عصيان وهدوء طمأنينة والدتي لثراء الطين، وبهجة الجذور. الماء في الأحواض والبرك والغدران والأنابيب لا يشبه الماء منسكباً كغلالة في حنو بالغ، كأنه عاشق يمضي نحو موعده، الكون كله يتجمع في قطرة ويقف في شبر كانت تقف فيه أمي! لاهياً ينهمر المطر، وناسياً في بهجة الهطول الفقراء والبيوت الورقية في دول أضنتها الحروب. وحدها الأشجار في الحديقة تضحك للمطر. مساحة غرفتي صغيرة. الخضرة تتدلى عند زاوية المدخل، الطاولة الرحبة التي أهدتني إياها أمي يقيناً منها أنني شاعرة، فتسألني ماذا أكتب، وأحياناً تسخر مني، إذ ترى أن قصائدي لم تبنِ لي بيتاً ولم تعجن لأطفالي خبزاً، ولم تتشكل أرقاماً لرصيد بنكي. وأنا صامتة أقبّلها وأعرف أنني أقرب من أموال الدنيا إلى قلبها. وأنا فرحة بالمطر أشرب الشاي تاركة للنسيان أن يطأطئ.. وأنهض متسللة على أطراف أحلامي.



إقرأ المزيد