جريدة الإتحاد - 12/28/2025 1:37:26 AM - GMT (+4 )
ما يزال كتاب إيمانويل تود «انهيار الغرب» (2024) يثير الاهتمام والمراجعات المؤيدة والمعارضة. فعلى غير عادة الاقتصاديين الكبار المتشائمين، يبدأ الكاتب الفرنسي من حرب روسيا وأوكرانيا، ويرى فيها فشلاً أوروبياً وأميركياً. أما الأوروبيون، والذين كان ينبغي أن يقلقهم التحرك الروسي بين 2008 (الاشتباك مع جورجيا) و2014 (ضم القرم)، فاندفعوا من دون جهدٍ كبيرٍ في الفهم أو التفاوض، باتجاه دعم أوكرانيا قبل نشوب الحرب الروسية الأوكرانية وبعد نشوبها. كانت حُجة روسيا أن الاتحاد الأوروبي والأطلسي كلاهما يحاصرانها، بينما كان الأوروبيون يستنجدون بالولايات المتحدة ويمضون قُدُماً في دعم أوكرانيا بكلّ الوسائل. وقبل نهاية العام الأول من الحرب، كان الأميركيون والأوروبيون يتنافسون في العمل التسلحي والسياسي لصالح أوكرانيا، وفي حسبانهم أنه في الحرب التقليدية يمكن الانتصار على روسيا أو إيقافها بالجبهة الأوروبية الموحدة وبالتدخل الأميركي الكبير.
ووجهة نظر «تود» أنّ الفشل سيكون من نصيب الفريقين نتيجة التعب العسكري والمالي والاستراتيجي. وقد عادت شركات التسلح هائلة النفوذ للعمل الحثيث، بمكاسبه الهائلة، وهو مصلحة أميركية بالدرجة الأولى، بينما راح الأوروبيون يعدون العدةَ لتغيير استراتيجياتهم وعدم الاعتماد الدائم على الولايات المتحدة. لكنهم رغم البدء في الإنفاق الكبير، فوجئوا بتحولات الرئيس ترامب الذي تجاوز ارتباكهم وسعى للخروج من الحرب بالمفاوضات المباشرة مع روسيا والسعي لتربيحها، في حين تستولي أميركا على ثروات أوكرانيا ومعادنها النادرة مقابل ضمانات لأمنها إذا تنازلت لروسيا عن إقليم دونباس.
تركيبة الأطلسي، وعموده الولايات المتحدة، ما عادت صالحة، حتى لو لبَّى الأوروبيون رغبات ترامب في زيادة الإنفاق من جانبهم. ثم إنّ روسيا ما عادت محتاجةً للمزيد من الأراضي والموانئ والمطارات والسلاح. وهكذا، كما يقول ميرشايمر، فإنّ السياسات الكبرى للدول الكبرى جميعاً تعاني من التقهقر، فروسيا لن تقوى، وأوروبا لن تستطيع الاستمرار بسياساتٍ عسكرية وتسلّحية جديدة.
لقد انتهت منذ مدة آثار الانتصار في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت روسيا شريكاً رئيسياً فيها. كان ينبغي أن يفهم الجميع أن أوروبا لن تستغني عن روسيا ولو بالتحالف مع أميركا. وكان ينبغي أن يكون واضحاً أن روسيا محتاجة بشدة إلى أوروبا، ولا يمكن أن تستغني عنها بعلاقاتٍ من أي نوعٍ مع الصين. لكنّ كل الأطراف تصوّرت خطأً أن سياسات القوة مفيدة، إنْ لم يكن في الهجوم ففي الدفاع.
والمشكلة في السياسات الاستراتيجية لدى سائر الأطراف. ويبقى أن الأخطاء الاستراتيجية تنعكس على المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فتزيد من عجز الدول، لكنها من ناحيةٍ أخرى تنشغل بالإدارات السياسية الخاطئة من جانب قوى اليمين التي بدأت تسيطر في دول قلب القارة القديمة، والتي تتنازعها الميول باتجاه واشنطن وموسكو.
هل تكفي الأخطاء الاستراتيجية لحصول الانهيار؟ في العادة لا تكفي، لكن الأوروبيين والأميركيين أكثروا من الأخطاء وفاجأهم ترامب بالسياسات الجديدة. وفي حين يسعى الأميركيون للانكماش، تريد روسيا الامتدادَ، ولا تسمح بذلك لدى أي من الأطراف القدراتُ الاقتصادية وقدرات إدارة الشأن العام في المشهد العالمي المتوسع.
كثُرت الدراسات والاستطلاعات بشأن الانحلال الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للغرب كله وبخاصة أوروبا. وكل هذه التنبؤات يتفوق عليها تيار التابع Subaltern الذي يذهب إلى أن الغرب شر على نفسه وعلى العالم. وفي الواقع ازدادت الأزمات الاقتصادية والسياسية، أما الانهيار فلا دليل عليه.
*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية
إقرأ المزيد


